الدبلوماسية ليست حكرًا على الرجال… والأردن يقدّم نموذجًا مُلهمًا للعالم

صنارة نيوز - 25/06/2025 - 12:05 pm

الصناره نيوز - خاص

 


حين تُفتح أبواب القاعات الكبرى في جنيف وبروكسل، والأمم المتحدة، ويدخل المندوبون ممثّلين عن دولهم، ثمة تفصيل بات يلفت الانتباه في السنوات الأخيرة؛ حضور أنثوي أردني لا يشبه الصيغة التقليدية للتمثيل العربي،ليس حضورًا رمزيًا، ولا محاولات إثبات وجود، بل أداء متقن يعبّر عن نضج سياسي ورؤية معتدلة، تنبع من دولة صغيرة بمساحتها، كبيرة بتجربتها.
لم تأتِ هذه الصورة من فراغ، بل من مسار طويل صاغته الإرادة السياسية بثبات، ورعته مؤسسة دبلوماسية كافحت لتكسر مركزية الرجل في ميدان ظلّ مغلقًا لعقود،رغم أن بذوره تم زرعها في الستينات عند تعيين اول سفيرة للبلاد ،وما جعل هذا التحول يتجاوز حدود التجميل المؤسسي هو أنه لم يُفرض بكوتا، ولم يُصنع لمجاراة الرأي العام الدولي، بل جاء بفعل إيمان عميق بالكفاءة – ولا شيء غير الكفاءة.
في قلب هذا التحول، تنهض قصة المرأة الأردنية في الدبلوماسية كأحد أكثر التحولات هدوءًا، ولكن تأثيرًا، قصة بدأت بخطوات واثقة، وانتهت إلى شراكة واعية، في زمن تتداخل فيه القوة بالحكمة، والشرعية بالعدالة.
لم تكن التجربة الأردنية مع المرأة الدبلوماسية خيارًا تجميليًا، ولا نتاجًا لضغوط دولية، لقد اختار الأردن، بإرادة سيادية، أن يربط تمكين المرأة بمفهوم الشراكة المتزنة، من دون أن يفرّط في شرط الكفاءة أو يلجأ إلى التوزيع الرمزي للمناصب،لقد نشأ هذا الخيار من إصرار ملكي راسخ على تطوير المؤسسات، وتحديث التشريعات، وتعديل البُنى الإدارية، بحيث لا تبقى المرأة "مؤهلة للمشاركة" فقط، بل تصبح عنصرًا أصيلًا في صناعة القرار الخارجي، وممثّلة لبلادها أمام العالم بقوة الحجة وعمق الفهم.
في قلب هذا التحوّل، برز دور وزير الخارجية أيمن الصفدي، صاحب الحضور العالمي والمشاركة الفاعلة والناجزة في المحافل الدولية، والذي تعامل مع حضور المرأة في السلك الدبلوماسي ليس كمهمة إدارية، بل كمشروع إصلاحي شامل، الوزير، في مواجهة صامتة مع ثقافة عمل يغلب عليها الطابع الذكوري، لم يتوانَ عن فتح الأبواب، ولا عن إعادة ضبط المسار المؤسسي كي يتّسع لدور المرأة بمرونة حقيقية، لقد جاهد لتطوير منظومة وزارة الخارجية بما يسمح باستيعاب احتياجات المرأة، سواء على صعيد التوازن المهني أو على مستوى التمثيل الخارجي، ليس بهدف المساواة الشكلية، بل لضمان شراكة عادلة تصنع السياسة الخارجية بالأدوات الأذكى.
وها هي النتيجة: دبلوماسيات أردنيات في بروكسل وجنيف، لا يقفن على هامش الجلسات، بل يشاركن في صياغة المواقف، وفي قيادة فرق التفاوض، وتمثيل المملكة في لجان سياسية وحقوقية وأمنية، ضمن منظومة الأمم المتحدة وفي جامعة الدول العربية، هؤلاء النساء لا يحملن عبء التمثيل الرمزي، بل مسؤولية السيادة الكاملة، بما يتطلّبه ذلك من احترافية وفهم ثقافي وقدرة على إدارة الملفّات المعقّدة.
هذا الحضور النسائي لم يأتِ بقرار مفاجئ، بل تراكم عبر سنوات من الإعداد والتأهيل والبرامج المدروسة والتجريب، لكنه في الوقت نفسه ما كان ليأخذ هذا الشكل لولا وجود قيادة وزارية تُدرك قيمة المرأة وتؤمن بقدرتها على التعبير عن الدولة بأمانة، ورغم إدراكه لحجم التحديات التي تواجهها المرأة في بيئة العمل الدبلوماسي الذكورية، فإن الوزير الحالي لم يتردّد في دعم هذا التوجه، بل يمكن القول، وبكل إنصاف، إن ما تحقق من حضور نسائي فاعل يُسجّل له، ليس فقط من باب اتخاذ القرار، بل من باب الثبات عليه في وجه التحديات غير المعلنة التي تنبع من أنماط تفكير تقليدية لا تزال ترى المرأة أقل كفاءة لمهام الخارج.
في المقابل، لم تكن الاستجابة من النساء الأردنيات أقل قوة،فحين فُتحت لهنّ الفرصة، لم ينتظرن امتيازًا أو تسهيلاً، دخلن الميدان، وأثبتن أن الدبلوماسية ليست شأنًا رجاليًا بحتًا، وأن الوعي السياسي والقدرة على إدارة التعقيد ليسا حكراً على جنس دون آخر،بعضهن قاد ملفات الأمن الإقليمي، وبعضهن شارك في إعداد قرارات حساسة ضمن لجان أممية، وبعضهن مثّل المملكة في لقاءات مغلقة مع كبار صانعي القرار في العالم، وكل ذلك، دون أن يُقدّمن أنفسهن على أنهن نساء في مهمة إثبات وجود، بل ككفاءات وطنية تمارس واجبها تجاه الدولة.
لقد أعاد حضور المرأة الأردنية في مواقع صناعة القرار السياسي الخارجي رسم ملامح الدبلوماسية نفسها، إذ أضفى على سياسات الدولة بعدًا أكثر إنسانية وشمولًا، وجعل من القضايا المرتبطة بالتعليم، والصحة، والنوع الاجتماعي، وحقوق الإنسان، عناصر أساسية في خطاب الدولة الدولي، تُطرح من منظور شموليّ يوازن بين الواقعية السياسية والمبادئ الأخلاقية، هذا التحول لم يُعزز فقط كفاءة أداء المملكة في المحافل الدولية، بل ساهم في ترسيخ صورتها كدولة تحترم التنوع وتؤمن بالعدالة، لا سيّما حين يتم التعبير عن ذلك عبر صوت نسائي مدرّب وواعٍ.
لكن هذا المسار لم يكن خاليًا من التحديات، إذ لا تزال المرأة الدبلوماسية تواجه في كثير من الأحيان تمييزًا غير معلن، أو تشكيكًا ضمنيًا بقدرتها على تحمّل أعباء العمل الخارجي، إضافة إلى الصعوبات الملازمة لطبيعة العمل المتنقل وما يفرضه من موازنة مع الحياة الأسرية، فضلًا عن الضغوط المرتبطة بإثبات الذات في بيئة يغلب عليها الطابع الذكوري،ومع ذلك، فقد برهنت التجربة الأردنية أن الانضباط والولاء المهني والقدرة على إدارة التعقيد ليست حكرًا على أحد، بل هي نتاج تدريب ومهارات وشغف، أثبتته النساء الأردنيات بجدارة.
وقد أظهرت تجارب عديدة حول العالم، أن الأسلوب الدبلوماسي للمرأة غالبًا ما يميل إلى ما يُعرف بـ"الدبلوماسية الناعمة"، أي بناء الثقة، وتوسيع مساحات التفاهم، والحوار العقلاني كأداة لتحقيق العدالة، بدلًا من المواجهة أو التصعيد، وفي هذا الإطار، يُشكل الأداء النسائي إضافة نوعية في إعادة تشكيل المشهد الدبلوماسي العالمي، عبر خطاب يتبنّى الحلول لا التعقيدات، ويضع الإنسان – لا النفوذ فقط – في قلب التفاوض.
وفيما تفتخر وزارة الخاجية الاردنية تفتخر بوجود 62 دبلوماسية أردنية عاملة في بعثات المملكة في الخارج وفي مركز الوزارة، مبيّنة أن هناك 9 سفيرات و 11 وزيرة مفوّضة، و7 مستشارات، و35 في باقي الرتب الدبلوماسية الأخرى (سكرتير أول، سكرتير ثانٍ، سكرتير ثالث، مُلحَقفإن  التقديرات الدولية تشيرإلى أن نسبة السفيرات حول العالم بلغت في عام 2024 نحو 21% من إجمالي السفراء والممثلين الدائمين، ورغم أن هذه النسبة لا تزال دون الطموح، فإنها تعكس اتجاهًا تصاعديًا مشجعًا، خصوصًا عندما نُدرك أن جوهر القضية لا يكمن في الأرقام وحدها، بل في نوعية الحضور وفاعلية التأثير.
وفي ضوء ذلك، نشأت مبادرات أممية ومؤسسية تُعزّز تمكين النساء في الحقل الدبلوماسي، منها مبادرة "النساء في الدبلوماسية" التابعة للأمم المتحدة، إضافة إلى برامج تدريب وتأهيل تُدار من مؤسسات دولية مرموقة، تنطلق جميعها من قناعة راسخة بأن حضور المرأة في العلاقات الدولية لا يجمّل المشهد فقط، بل يوازن مضمونه ويُسهم في بناء عالم أكثر عدالة واستقرارًا.
وفي الحالة الأردنية تحديدًا، فإن هذا الحضور النسائي لم يُترجم إلى مكتسبات مؤقتة، بل أصبح جزءًا من مسار مؤسسي هدفه مراكمة الإنجاز، ورفع مساهمة المرأة في مسيرة الازدهار والتنمية الوطنية، وتعزيز صورتها كطاقة وطنية شريكة في رفع راية المملكة الأردنية الهاشمية في مختلف المحافل الدولية، ولم تعد المرأة الأردنية مجرّد متلقٍّ للمبادرات الخارجية، بل طرفًا فاعلًا في صياغة السياسات الدولية الخاصة بتمكين المرأة، ونموذجًا تقدميًا يُسهم في تحقيق الهدف الخامس من أهداف الأمم المتحدة للتنمية المستدامة، المتمثل في المساواة بين الجنسين.
وحين أعلنت الأمم المتحدة يومًا عالميًا للمرأة الدبلوماسية، بدا كما لو أن التجربة الأردنية كانت تستعد لهذا الاعتراف منذ سنوات، لم تكن بحاجة إلى إثبات، بل إلى إنصاف،والأهم من ذلك، أن المملكة لم تتعامل مع المناسبة كاحتفال شكلي، بل كمحطة لمراجعة حقيقية تُكرّس التقدّم وتضع الأساس لمرحلة جديدة تُعلي من صوت الشراكة، لا من رمزية الحضور.
التجربة الأردنية اليوم لا تتحدّث فقط عن تمكين النساء، بل تعيد كتابة الفصل الخاص بـ"من يمثّل الدولة" في العلاقات الدولية، وهي، بحكم ما أنجزته، باتت تفرض نفسها كنموذج لدولة عربية اختارت أن تمشي عكس الصورة النمطية، وأن تربط صورتها الدولية بمنظومة قيم تبدأ من الداخل.
والأهم من ذلك، أن هذا التحوّل لم يكن وليد صدفة مؤسسية أو لحظة ضغط خارجي، بل نابع من قناعة سياسية راسخة في أعلى مستويات الدولة،لطالما شكّل جلالة الملك عبد الله الثاني الدافع الأول وراء فتح المجال أمام المرأة الأردنية لتكون شريكة حقيقية في القرار، لا فقط في الداخل، بل على المسرح الدولي، لم يكن تمكين المرأة مجرد عنوان في خطاب الدولة، بل جزءًا من رؤية متكاملة تُعيد تعريف دور الأردن كدولة حديثة تتعامل مع العدالة والمساواة كأدوات للقوة، لا كتنازلات، وفي عالم تتزايد فيه الحاجة لأصوات متوازنة وعاقلة، كان لافتًا أن يُختار صوت المرأة الأردنية، إلى جانب صوت الرجل، ليُعبّر عن الدولة في وجه العالم، ضمن معادلة لا تستبعد أحدًا، بل تحتفي بالكفاءة حيثما وُجدت.