وسقط رياض... فمتى يسقط تلاميذه وصبيانه؟

صنارة نيوز - 05/09/2024 - 3:16 pm

الصنارة نيوز/ خاص- سامح محاريق 

بقيت أخبار حصول حاكم مصرف لبنان على جائزة لأفضل محافظ بنك مركزي عربي أو حتى في العالم أو المجرة كلها، مسألة روتينية، فالرجل محترف في تلميع صورته واستقطاب الاهتمام، وهذه صنعة لبنانية ففي لبنان أنت تأكل بحواسك، يحاصرك ديكور الطبق، وتلتهمك رائحته قبل أن تضع لقمة واحدةً في فمك، ولكن ذلك، للأسف، لا يقدم أي ضمانة لجودة الطعام، بالعكس، كثيرًا ما تكون العناية بتدليل الحواس استراتيجية ناجحة لمداراة الجودة المنخفضة للمواد التي تشكل المحتوى الرئيسي للوجبة. 

مع كل الجوائز، والألبندة، فسلامة لم يكن مجرد فاسد عادي، بل المايسترو الكبير لمنظومة كاملة تعيش في المصارف اللبنانية التي فقدت دورها وبوصلتها لتتحول إلى أداة طيعة بيد تحالف المال والسلطة، وفقدت أي دور تنموي حقيقي، وكان سلامة يقف بصدره المنفوخ ونظراته التي تتحدى الجميع على رأس هرم كبير من الفاسدين تلاعبوا بالهندسات المالية وتبييض الأموال. 

سنعود إلى الهندسة المالية في موقع لاحق، ولكن السؤال المهم، ما سبب توقيت سقوط سلامة في هذه اللحظة المعقدة؟ 

توجد سيناريوهات كثيرة... 

أولها... تفاهم سياسي واسع كان يظهر في تنازلات تكتيكية بين سمير جعجع وحزب الله يسعى لتجنب الحرب على لبنان، وأتت تصريحات جعجع الواقعية لتؤشر إلى وجود أفق أوسع من التفاهمات، ولأن التقدم في المواقف يتطلب التخلص من بعض الملفات المزعجة إلى حد ما، على أن تكون رخيصة التكلفة نسبيًا، وبذلك يكون الحاكم المصرفي فرقًا في الحسابات في عالم كبير من فروقات الحساب في لبنان. 

السيناريو الواسع القائم على تفاهم سياسي، يشتمل على سيناريوهين فرعيين، فإما رضوخ سلامة لأنه يعرف أن تكلفة التخلص منه لا تتخطى مئات الدولارات لتصنيع قنبلة صغيرة وفتاكة، وأمراء الحرب يمكن أن يصدروا القرار بذلك من غير أن يحتاجوا للنطق بكلمة واحدة، إيمائة أو لحظة صمت مع تنهيدة قصيرة، ستتخذ في هذه الحالة إشارة لإرسال سلامة ليتدبر كشف حسابه الثقيل في السماء. 

السيناريو الفرعي، هو محاولة سلامة للاحتماء بحائط القضاء المال، على الرغم من أن المؤسسة القضائية اللبنانية حاولت جلبه أكثر من مرة في السابق، ولكن ما لا يدركه سلامة أن سعيه للبحث عن الحماية بهذه الطريقة نكتة مضحكة بالنسبة لأمراء الحرب. 

كما أنهم غير خائفين مما يمكن أن يكشفه من أسرار، فأعمالهم كثيرًا ما تجري خارج القطاع المصرفي، والكتلة الدولارية النقدية في الضاحية الجنوبية تصل إلى أرقام فلكية، ومعها كميات هائلة من الذهب، وبطبيعة الحال، لن يعتبر القياس على بقية الأطراف مثل القوات اللبنانية وغيرها، دليلًا على ذكاء صاحبه، لأنه أمر واضح للغاية. 

السيناريو الرئيسي الثاني، هو التحالف من أجل حماية سلامة بعد وجود ضغوطات دولية لإمضاء مطالبات سابقة لمحاكمته، ليصبح وجوده في عهدة القضاء اللبناني دافعًا للمناورة حول المطالبات الدولية. 

ولكن ما الذي فعله سلامة؟ وكيف أفسد القطاع المصرفي اللبناني؟ وصولًا إلى كارثة اقتصادية أدت إلى تبديد مدخرات ملايين اللبنانيين، وتهاوي الليرة اللبنانية لتأكل الأجور وخاصة التقاعدية منها، فالأستاذ الجامعي الذي كان يحصل على تقاعد يدور حول مليوني ليرة، وبما يعادل أكثر بقليل من 1300 دولار، أصبح يتقاضي فعليًا ما قيمته 20 دولارًا أمريكيًا، ووصلت الحال بكثيرين إلى عدم قدرتهم التوجه إلى مقرات أعمالهم من الأساس، وللأسف لم يكن جنود الجيش اللبناني والقوات الأمنية استثناءً من هذه الحالة المزرية.
 
أثناء العقدين الأخيرين وصلت الرواتب والمكافآت التي تتقاضاها القيادات المصرفية اللبنانية إلى أرقام قياسية، وكانت عملية استقطاب الكفاءات الشكلية تجري على قدم وساق، والشرط الحقيقي لم يكن التأهيل العلمي أو الشهادات المهنية، بقدر ما كان الحصول على شخصيات طيعة لا تناقش كثيرًا وتمتلك شهية واسعة لتحقيق المكتسبات الشخصية. 

في هذه البيئة ظهرت الهندسات المالية التي أدراها مصرف لبنان (البنك المركزي اللبناني) لسرقة المدخرات الدولارية للبنانيين لتسديد المديونيات القائمة على الحكومة اللبنانية، وبالمقابل، تراخت جميع أوجه الرقابة على القطاع المصرفي، وكان سلامة يحصل على الدولار مقابل فوائد مرتفعة أغرت حتى مستثمرين خارجيين لإيداع الدولار في البنوك اللبنانية، ومنهم من وضع عشرات الملايين، والمشكلة أن أحد المشهورين الذين تحدثوا بصوت مرتفع يقدم نفسه خبيرًا اقتصاديًا لا يشق له غبار، وسقط ببساطة في الفخ اللبناني! وفي الوقت نفسه، بقي ينتج النظريات الاقتصادية والسياسية التي تندرج تحت ترجمة الصحافة الاقتصادية الصفراء (نعم يوجد صحافة اقتصادية صفراء) والثرثرة والخيال الخصب في برامج تلفزيونية كثيرة تحت عباءة حكمة تحتاج إلى مراجعة تقييمها المبالغ فيه بين المتابعين. 

الجميع كان يعرف أن الاقتصاد سيسقط لأنه سيفشل في توفير الدولار من طرق منتجة، وأن التوتر السياسي وتراجع السياحة والاستثمار جميعها أسباب جعلت التغول على أموال المدخرين الوصفة الإجرامية لسلامة، السؤال كان يتعلق بالتوقيت ليس إلا. 

سلامة أخذ وصفة الرجل الصلب، فكان يرتاد المطاعم بينما يتحلق المتظاهرون حولها، ويخرج ليرمقهم باحتقار، مع أنه سرق أموالهم بصورة فعلية خالية من أي مجاز، والمتظاهرون في جملتهم لم يكونوا أمامه سوى رعاع يشربون العرق البلدي الرخيص، ويأكلون الفراكة، في الوقت الذي كان يمكنه أن يهبط على طاولته في مطاعم سويسرا زجاجات نبيذ تتجاوز قيمتها آلاف الفرنكات. 

حاكم مصرف لبنان ليس المحافظ الوحيد السيء، ففي مصر أخذ المحافظون يفرطون في استقلالية البنك المركزي، والمحافظ الحالي المعلق تحت وصف القائم بالأعمال، كان جزءًا من عملية الترقب الطويلة لتعويم الجنيه الموجع في سنة 2016 عندما كان في موقع قيادة أحد المؤسسات المصرفية الكبيرة، بينما كان المحافظ في ذلك الوقت، يقدم وعودًا ساذجة للمصريين باستعادة الدولار إلى مستوى أربعة جنيهات، وهو يقف فعليًا على حافة الهاوية. 

البنك المركزي مؤسسة أهم من أن تترك كحديقة خلفية للسياسيين الذين يحاولون تصدير مشكلاتهم لمؤسسات لا يفهم الكثيرون أدوارها وأدواتها لمجرد شراء الوقت، والأمر الجيد في الأردن، هو الاستقلالية العنيدة وحتى العدائية للبنك المركزي الأردني، ووجود بعض الشراسة والخشونة تجاه الشطط الذي يمكن أن يمارسه بعض العاملون في القطاع المصرفي، لدرجة أن البنك المتمسك في موقعه في القلب المزدحم لوسط البلد في عمان يمكن أن يوصف بالأرثوذكسية. 

أذكر آخر لقاء مع المحافظ عادل شركس، ورده عندما أبديت ملاحظات على تعنت واسع في تعليمات غسيل الأموال، وعلى الرغم مما قدمته من حجج منطقية، إلا أن رده كان صارمًا وقاطعًا، وأخرجه من جلسته المسترخية، ليخبرني، بأن هذه مسألة وطنية، وأن على الجميع أن يتحملوا مسؤولياتهم وألا ينظروا كثيرًا في التفاصيل عندما يتعلق الأمر بجهود بذلت على مدى أشهر من أجل الخروج بالأردن من القائمة الرمادية التي كانت تشكل عاملًا مقلقًا للأردن بشكل عام. 

شهدت المصارف الأردنية لوثة اللبننة، مثل الإذاعات ومحلات الملابس، لفترة من الوقت، وكان البنك المركزي يعمل على ترويض هذه النزعة ويطبق إجراءات استباقية ليخرج من عوارضها، مع بقاء بعض العوالق هنا وهناك، أعتقد أنه سيكون مناسبًا لو تحصل المركزي على الفرصة أمام المهام المتكاثرة أن يقضي عليها بصورة مبرمة. 

تقول الأسطورة أن القطاع المصرفي اللبناني يعد الأكثر مرونة وابداعًا بين القطاعات المماثلة، ويفكك الأسطورة بجانب قراءة تاريخ القطاع المصرفي في لبنان، أن المصارف اللبنانية في مرحلة التوسع للاستثمار فوائض الأرباح التي تحققت من قروض الإعمار والحريرية السياسية لم تقدم شيئًا يذكر في أي من الأسواق التي قصدتها. 

قبل أيام كان المحافظ عادل شركس في احتفالية لجميعة شركسية، ووقف بطاقيته الباباخا وبصورة قتالية يحتاجها الاقتصاد الأردني في هذه المرحلة. 
ربما من المناسب، في لحظة سقوط رياض سلامة التي يجب أن تكون سقوطًا لنهج كامل في المسؤولية الاقتصادية، أن نتذكر نكتة تحكي عن الطباخ الفلسطيني الذي ذهب إلى الفاتيكان ووقف لأيام طويلة لا مطلب له يطلب مقابلة البابا، وفي النهاية لم يجد الحرس مشكلة في بضعة دقائق في حضرة البابا، ليتحدث الطباخ، ويخبر البابا بأنه طباخ ابن طباخ ابن طباخ ابن طباخ، وهو الأمر الذي أثار دهشة البابا، ليسأله عن غايته، ليخبره أن فاتورة العشاء الأخير ما زالت غير مسددة من زمن جد جد جد جد جد جده. 

المعادل لهذه النكتة مأساوي، فالوجه الذي يحمله سلامة، مجازيًا هذه المرة، هو وجه الحفيد البعيد لأحد الصيارفة الذين قلب السيد المسيح طاولتهم داخل الهيكل، ويجب أن نتخلص من وجه اللص الذي يتطلع إلى ضحاياه بغرور وعجرفة واستعلاء، لأن ذلك، يعني القدرة على البدء (على نظافة)!