التأشيرات كسلاح ضغط: الصدام البرازيلي–الأمريكي ومستقبل الأمم المتحدة
صنارة نيوز - 08/09/2025 - 4:12 pm / الكاتب - د راسم بشارات
د. راسم بشارات - مختص في الشأن البرازيلي
حين تتحول التأشيرات إلى جدران سياسية، تصبح الأمم المتحدة رهينة قرارٍ أمريكي–إسرائيلي، ويتم استهداف الجنوب العالمي بصوتيه الفلسطيني والبرازيلي معًا
في الأسابيع الأخيرة، انكشفت أمام الرأي العام ملامح أزمة دبلوماسية متفاقمة بين البرازيل والولايات المتحدة، أزمة لا يمكن فصلها عن طبيعة النظام الدولي الحالي القائم على هيمنة قطبية، ولا عن أدوات الضغط التي باتت واشنطن تتقن استخدامها، والتي تتمثل بالتأشيرات والعقوبات الفردية. فمن جهة، صعّدت إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب من ضغوطها على السلطة القضائية البرازيلية عبر فرض قيود تأشيرات وعقوبات على مسؤولين بارزين متهمين بالضلوع في محاكمة الرئيس اليميني السابق جايير بولسونارو، الذي يواجه اتهامات بمحاولة قلب نتائج الانتخابات. هذه الخطوة أدانها الرئيس لولا دا سيلفا ووصف سحب تأشيرة وزير العدل ريكاردو لوياندوفسكي بأنه “غير مقبول”، لتتحول القضية من ملف قضائي داخلي إلى ساحة مواجهة سياسية ودبلوماسية مفتوحة.
الأزمة أخذت بُعدًا إضافيًا مع اقتراب اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة. فقد تسرّبت تقارير من داخل واشنطن تؤكد وجود نية بفرض قيود على وفودٍ معينة، بينها الوفد البرازيلي. المعضلة تكمن هنا في البعد البروتوكولي، اذ ان المتعارف عليه تقليديًا في اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة في سبتمبر أن يتحدث الرئيس البرازيلي أولًا، يليه مباشرة الرئيس الأمريكي، وهو ترتيب رمزي يعكس اعترافًا بدور البرازيل التاريخي في الأمم المتحدة. لم يتضح بعد ما إذا كانت هذه القيود ستطال الرئيس لولا نفسه أم مسؤولين أدنى رتبة، لكن مجرد طرحها يُعتبر سابقة خطيرة تضرب الأعراف الأممية وتعيد طرح سؤال جوهري حول مدى التزام واشنطن باتفاقية المقر الموقعة مع الأمم المتحدة، والتي تنص على ضمان وصول جميع الوفود دون عراقيل. المفارقة أن هذا السيناريو يعيد إلى الأذهان السياسات الأمريكية الأخيرة التي منعت بموجبها منح التأشيرات لقيادات فلسطينية، بما في ذلك الرئيس محمود عباس نفسه، في خطوة شكّلت انتهاكًا صريحًا لروح الاتفاقية ذاتها، وأعادت طرح إشكالية ازدواجية المعايير في النظام الدولي.
التصعيد لم يتوقف عند حدّ الملف القضائي والدبلوماسي، بل امتد إلى المجال التجاري، حيث رفعت واشنطن الرسوم الجمركية على الواردات البرازيلية إلى 50%، وهو ما أثار قلقًا عميقًا لدى دوائر الأعمال وأجبر البرازيل على التلويح بإجراءات انتقامية موازية. في الوقت نفسه، واجهت المصارف البرازيلية معضلة مركبة بعدما شملت العقوبات الأمريكية قاضي المحكمة العليا ألكسندر دي مورايش، لتجد المؤسسات المالية نفسها عالقة بين التزامات القانون الوطني وضغوط النظام المالي الأمريكي. هذا الانقسام يعكس بدقة كيف تحولت أدوات الهيمنة الاقتصادية إلى امتداد للقرار السياسي في الصراع بين الشمال والجنوب.
لكن البعد الأكثر حساسية يبقى سياسيًا. الرئيس ترامب، الذي لم يتوقف عن انتقاد لولا، يرى في محاكمة بولسونارو تهديدًا مباشرًا لمشروعه الأيديولوجي العابر للحدود. ومن هنا جاءت محاولاته العلنية للتأثير على القضاء البرازيلي، وهو ما رفضته المحكمة العليا بشكل صريح، مؤكدة أنها لن تخضع لأي ضغط خارجي.
غير أن هذا الاشتباك القضائي – الدبلوماسي يُعيدنا إلى أزمة أخرى تعيشها البرازيل هذه الأيام:، المتمثل بالتوتر المتصاعد مع إسرائيل. فمواقف لولا الداعمة للقضية الفلسطينية، ورفضه لسياسات الاحتلال، فجّرت أزمة غير مسبوقة مع إسرائيل وصلت إلى تبادل الاتهامات العلنية وسحب السفراء. حين نضع هذه الأزمة بجانب نية واشنطن منع الوفد البرازيلي من المشاركة الكاملة في اجتماعات الأمم المتحدة، يتضح الترابط البنيوي بين مسارين:
الأول: استخدام أدوات العقاب الدبلوماسي لشلّ الأصوات المناهضة للهيمنة الأمريكية – الإسرائيلية.
والثاني: إفراغ الأمم المتحدة من مضمونها كمنبر دولي حر وتحويلها إلى أداة بيد الولايات المتحدة الأمريكية .
ردة فعل البرازيل، ستكون متعددة المستويات: دبلوماسياً، ستتمسك بالحفاظ على البروتوكولات الدولية وسيادتها القضائية؛ اقتصاديًا، قد تلجأ إلى إجراءات مضادة على غرار الرسوم أو القيود التجارية؛ وسياسيًا، من المرجح أن تتبنى خطابًا تصعيديًا مدروسًا على الساحة الدولية، مستغلة التحالفات الإقليمية والدولية للدفاع عن مصالحها. بهذا الشكل، تتحول الأزمة إلى حلقة تصعيدية متبادلة، حيث يلتقي الضغط الأمريكي القضائي والسياسي مع مقاومة البرازيل الدبلوماسية والاقتصادية، ما يجعل مسار استعادة الثقة صعبًا.
إن قراءة هذه التطورات تكشف بوضوح أن ما يجري ليس مجرد خلاف ثنائي بين البرازيل والولايات المتحدة الأمريكية، بل هو جزء من تحول هيكلي أوسع في العلاقات الدولية.
حين تتحول التأشيرات إلى جدران سياسية، تصبح الأمم المتحدة رهينة قرارٍ أمريكي–إسرائيلي، ويصبح الجنوب العالمي بصوتيه الفلسطيني والبرازيلي معًا تحت الاستهداف. فالتأشيرات لم تعد مجرد وثائق دخول، بل تحولت إلى أدوات حصار سياسي، والعقوبات لم تعد مرتبطة بانتهاكات القانون الدولي، بل صارت وسيلة لتطويع الأنظمة الوطنية وإعادة دمجها في المنظومة الرأسمالية العالمية بشروط أمريكية. ومنع التأشيرات عن الرئيس الفلسطيني محمود عباس أو التفكير بمنع الرئيس البرازيلي لولا دا سيلفا من إلقاء كلمته في الأمم المتحدة، يكشف أن القضية تتجاوز الأشخاص إلى محاولة إعادة صياغة النظام الأممي برمته. إنه نظام لا يحتمل التعددية، ولا يقبل بأصوات الجنوب العالمي حين تخرج عن النص.