اليوم ذكرى الأربعين .. الأديب الكبير محمد جبريل .. الكشَّاف الذي لم يعش لنفسه فقط

صنارة نيوز - 10/03/2025 - 11:22 am

عمار علي حسن

قرأت ذات مرة في صحيفة "المساء" عن ندوة يعقدها كل يوم أربعاء رئيس القسم الثقافي بها الأديب محمد جبريل، ويقصدها أدباء شبان يتعثرون على أول الطريق، وآخرون قطعوا فيه خطوات ليست بعيدة، وعرفت أنه إذا استملح قصة أو راقت له قصيدة يدفعها إلى النشر، والأهم أنه يتيح لرواد ندوته أن يقرأوا ما كتبوه من قصص وقصائد، فيعلق عليها الجالسون بقدر ما يعرفون، وينتهي الرأي إليه، فيدلي بدلوه، غارفًا من تجربته كأديب كان أيامها قد أنتج عددًا معتبرًا من الروايات، والمجموعات القصصية، والكتابات النقدية.
عزمت على الذهاب إلي الندوة في طريق عودتي من كلية الضباط الإحتياط إلى قريتي في المنيا. هبطت كالعادة من الباص الميري في ميدان رمسيس وعلى جسدي البدلة التي كنا نرتديها نحن طلاب الكلية، وهرعت إلى "مسجد الفتح"، ودخلت إلى أحد حماماته، فخلعتها، وارتديت بنطالًا وقميصًا وبلوفر، إذ كان شتاءً، ودلفت من "شارع الجمهورية"، إلى "شارع زكريا أحمد" حيث تقع الجريدة، قلت لرجال الأمن: "ندوة الأستاذ محمد جبريل"، فدلوني على مكان مكتبه، فسعيت إليه، ودخلت لأجده جالسًا بين شباب تضيق بهم الغرفة، فيتزاحم بعضهم على بابها، يمدون آذانهم لعلهم يسمعون شيئًا مما يُقرأ أو يُقال.
كنت أيامها قد قرأت له روايتي "الأسوار" و"إمام آخر الزمان"، ومجموعة قصصية عنوانها "هل" فعرفت طرفًا من إبداعه، لكن لم أكن قد قرأت له شيئًا ذا بال من نقده، اللهم إلا بعض الأعمدة التي كان يكتبها في الصفحة الأدبية، لكن ما لفت انتباهي في الأستاذ جبريل كان أمرًا إضافيًا، لا يقل أهمية عن إبداعه، ألا هو طريقته في إدارة الندوة التي تجمع بين اللين والشدة، والصبر والحزم، ومنح الفرص للآخرين كي يتحققوا، أو بمعنى أدق كي تتفتح ورود إبداعهم على ضفاف التجربة والمكان والصُحبة.
مع الأيام ترسخ أمامي جبريل كأديب كبير وإنسان خلوق رائع، عبر كثيرون على كفيه وهو متطامن راض، على شفتيه ابتسامة رائقة، وفى قلبه امتنان عميم. يعمل فى صمت، وينتج بدأب، ولا ينتظر شيئًا من أحد، ويمضى مستغنيًا بزهده، ومكتفيًا بسطوره الفياضة بالجمال والمعانى.
لقد استقبلَنا هذا الرجل الجميل فى ميعة الصبا، ونحن نخطو على مهل نحو غاياتنا النبيلة، كان يجلس فى صدارتنا برأسه الذى يشتعل شيبًا، يلملم أطرافنا البعيدة فى مكتبه، حيث ندوته، وينصت إلى تباشيرنا بإمعان وجدية ظاهرة. يغمض عينيه حتى يقدح ذهنه، ويلتقط كل شىء من أفواهنا، وكأننا قد استوينا على عروش الأدب. وما إن ينتهى الواحد منا مما ألقاه، شعرًا كان أو قصة أو جزءًا من رواية، حتى يطلب من الآخرين أن يدلوا بدلوهم فيما سمعوه، وفهموه ووعوه. فإن أجاد أحدنا فى النقد، باركه وربت كتفه، وإن تجاوز تجريحًا وتقبيحًا زجره، فكان بذلك يعلمنا، فى يسر وسلاسة ومن دون خشونة وفظاظة ولا ادعاء، كيف يمكن أن يكون النقد مدفوعًا بالمحبة قدر اتكائه على العدل والاستقامة المعرفية والفنية، والعمق والشمول.
ولمَّا ترك موقعه كرئيس للقسم الأدبى فى الجريدة، انتقلت الندوة إلى مبنى نقابة الصحفيين القديم ذى الحديقة الساجية والمقاعد الخشبية البسيطة. انقطعت عن الندوة سنين عددا وعدت ذات مساء، ودخلت على مهل فوجدته جالسًا بين أصدقائه الصغار، ينصت إليهم من جديد. بعض القدامى كان لا يزال موجودًا، وغابت الكثرة، وحل محلها وافدون جدد، جاءوا من الشوارع الخلفية، ومن القرى والنجوع البعيدة، يبحثون عن مكان وسط الزحام الرهيب، وهم يقبضون على ما كتبوا، بعضهم يحلم بأن سطوره ستغير العالم، وبعضهم أكثر تواضعًا يريد أن يحظى باعتراف وتشجيع يدفعه خطوات أخر على طريق الإبداع الأدبي الرحيب.
كان جبريل متحققًا أيامها، واستمر تحققه، حتى ترك لنا تجربة تحمل الكثير من السمات، التي تميزه عن كثيرين من أبناء جيله، وبعض من سبقوه، واللاحقين عليه، ويمكنني ذكرها في النقاط التالية:
1 ـ الجمع بين القول والفعل: فهو لم يكتف كغيره بإبداع أعمال سردية ونقدية، لا يمر عام إلا ونرى له كتابًا جديدًا أو أكثر، صدر من دار نشر حكومية أو خاصة، إنما كان حريصًا على أن يكون "شيخ طريقة" له مريدوه، أو أسطى له صبيانه، يعلمهم في تعليقاته على كتاباتهم، أو فتح الباب أمام غيره ليفعل ذلك، كيف يجيدون ويجددون في كتاباتهم، لينتقلوا من مجرد المحاولات الخجولة إلى الإبداع الساعي إلى الاكتمال الفني. 
كنا قد قرأنا عن أدوار لعبها آخرون في الحياة الأدبية، مثل الأستاذ عبد الفتاح الجمل، الذي نبت على كفيه أبناء جيل الستينيات، فكان يقرأ لهم، ويشجعهم، وينشر المتميز من إبداعهم، حتى كبروا، وملأت كتاباتهم العيون والأسماع. وكنا نسمع عن إبراهيم منصور الذي توقف عن الكتابة مكتفيًا بقراءة ما يكتبه غيره، فيعلق عليه، وينقده شفاهة، ويوجه من يحتاجون إلى إنضاج تجاربهم، حتى صار مرجعية لجيل، وعلامة مسجلة، إن وضعت بصمتها على نص عومل بإكبار أو ترحاب. وكنا نتابع جهد محسن الخياط الذي كان يحرر صفحة في جريدة "الجمهورية" عن أدباء الإقاليم، وعمود فتحي سلامة في "الأهرام" الذي يخصصه غالبًا للتعليق على أعمال أدبية صدرت حديثًا، منها ما كان للشبان.
وقبل الجمل ومنصور والخياط وسلامة قرأنا عن يحيى حقي، الذي تحمس ذات يوم لقصة كتبها الكاتب والمترجم محمد إبراهيم مبروك، وهمَّ لنشرها، وحين وجد عدد المجلة التي يرأس تحريرها قد اكتمل، رفع منه قصة له، ووضع قصة مبروك مكانها، وعرفنا كيف يقصده الأدباء الشبان القادمون من بعيد، يسلمون قصصهم إلى مكتبه، سواء أتيحت لهم فرصة لقائه أم لم تتح، وكيف كان لا يهمل ما تركوه له، إنما يقرأه بإمعان، وينشره إن وجده جيدًا، أو ينتظر أصحابه إن لم يكن كذلك كي ينصحهم على قدر استطاعته. 
لكن لم يكن أي من هؤلاء يعطي الشباب الوقت الذي منحه لهم جبريل، ولا العناية التي أبداها بشخوصهم ونصوصهم، ولا الحرص الشديد على التواصل والحدب الإنساني الرهيف الرحيب، ولم يحظ أي منهم بالتفاف هذا العدد من الكتاب حوله، ممن ينتمون إلى ثلاثة أجيال أدبية: الثمانينات والتسعينيات والعقد الأول من الألفية الثالثة، والذين واصل بعضهم الكتابة، وحققوا فيها نجاحًا لافتًا، لا يمكن للأوفياء منهم أن ينكروا فضل جبريل وندوته عليهم، وبعضهم توقف عن الكتابة، لكنه لم ينس الساعات التي كان يقضيها بين أقرانه في مكتبه بصحيفة المساء.
فلم يكن جبريل منشغلًا فقط بما يكتبه الشباب المتحلقون حوله، بل كان حريصًا على أن يسأل عن أحوالهم، ويقف على مشكلاتهم، ويحاول المساعدة في حلها، على قدر استطاعته. ومن ندوته تعرف فتيان على فتيات، وتعمقت العلاقة فتكللت بالزواج، وهو بارك كل هذا وتهلل له، بوصفه في مقام الوالد لأغلبنا، والأخ الكبير لبعضنا.
وحين ترك جبريل رئاسة القسم الثقافي بجريدة المساء، وغُلَّت يده في دفع ما يروق له من قصص وقصائد إلى النشر، كان يحض النقاد ومن يعملون بالصحافة بين مرتادي ندوته من الكتاب، على أن يساعدوا رفاقهم على الدرب في نشر أعمالهم، والكتابة عنها، نقدًا أو خبرًا وإشهارًا. وأعمل هو قلمه، فكان يكتب عن البعض، مقالات في صحف ومجلات، أو مقدمة لمجموعة قصصية أو رواية، ويحدث الآخرين عن كل موهبة يرى أنها جديرة بالاحتفاء، ويعول عليها، ويشير إليها.
هكذا ظل الأستاذ جبريل مزاوجًا بين رغبته الطاغية فى الكتابة، والتى أثمرت عشرات الروايات والمجموعات القصصية والدراسات الأدبية والنقدية وفي علم اجتماع الأدب، وبين حرصه على أن يسهم فى اكتشاف المواهب وتشجيعها، قدر استطاعته، وذلك فى وقت اكتفى فيه كثيرون بما يكتبونه وكأنه الدر المكنون، وأوصدوا أبوابهم أمام الآخرين من الباحثين عن فرصة للتعلم والتحقق، وهربوا منهم، بأنانية مفرطة ووهم طاغ بأن الساحة لا يجب أن تتسع إلا لهم، وأن أى نجم يلمع فى سماء الأدب سيسحب من أضوائهم هم فيتساقطون فى بحر الظلمات.
2 ـ الكتابة مهمة: فجبريل كان يؤمن بأن الكتابة رسالة إنسانية واجتماعية إلى جانب كونها هبة جمالية، وكان يرد على المتعجلين من الشباب إلى الخروج من ضيق الحال، والساخطين من الأحوال، ويرون أن ما يخطونه يعجز على أن يصنع أي ثقب في جدار الظلم والظلام، بقوله: "الكتابة إن لم تحقق التغيير الآن، فستحققه غدا."، وكان هنا يتساوق مع تصور ينظر إلى الأدب على أنه يساعد من يقرأه على تغيير رؤيته إلى نفسه والمجتمع والعالم والكون تدريجيًا، فإن تغير الفرد، ساهم في القوة الدافعة إلى التغيير العام، ليرمى الأدب في مجرى التصور العام المبني على رؤية قرآنية تقول: "إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم."
كان جبريل يرى في هذا أن الأدب نوع من المقاومة، حتى لو كانت بالحيلة، وأن المعرفة سلطة لا يجب على من يحوزها ألا يفقد الإيمان بقوتها، لهذا صبر وتحمل الكثير، في سبيل أن يعقد ندوته التي يأتي إليها شباب متمردون، في جريدة كانت إدارتها ورئاسة تحريرها لا تنشغل بالثقافة، ولا تعطيها وزنها من الصحافة والحياة. 
جلس جبريل في غرفة كانت مشهورة في "دار التحرير" بأنها "غرفة المغضوب عليهم"، وكان إن قدم مادة للنشر وتم رفضها، لا يغضب منصرفًا أو هاربًا، ويضع قلمه في غمده، إنما ينكب سريعًا على تجهيز مادة أخرى، حتى لا يفقد الشباب هذا المنبر الذي علا حتى صار قبلة لهم. 
ويا للغرابة أن هذه الغرفة كانت تشاركه فيها الأستاذة آمال عبد الوهاب محرر باب "بريد القراء" الذي كان ينافس بريدًا مماثلًا في صحيفة "الأهرام" يحرره الأستاذ عبد الوهاب مطاوع. وكم تعجبت من هذه الغرفة التي يسعى إليها المصريون برسائلهم باحثين عن حل لمشكلاتهم الأسرة والعاطفية والحياتية لدى الأستاذة آمال، أو بأجسادهم حيث أدباء صغار السن قابضين على نصوصهم، يريدون بها وفيها ولها أن يجدوا لأنفسهم مكانًا في دنيا الروائيين وكتاب القصة والشعراء والمسرحيين والنقاد، ومن بينهم الذين يؤمنون بما آمن به جبريل من أن الكتابة رسالة ومهمة عالية وخطيرة ومؤثرة، ولو على مهل. 
3 ـ القراءة زاد: فجبريل كان يقرأ بنهم شديد، ويقظة عالية، فما إن يمسك بيده كتابًا حتى يغرق في سطوره، ويمد إليها قلمه، كلما وجد فكرة أو رؤية أو تصورًا يصلح لكتاب شرع في تأليفه، أو ينوي هذا في المستقبل، أو وجد معلومة يمكن الاستفادة منها في أي من رواياته. كان مثل تلميذ يستذكر دروسه بإخلاص، أو نحلة تمص الرحيق من أزهار شتى. إنها قراءة وظيفية، لخدمة النص والمسار الكتابي لمن يقرأ، لكنها لا تخلو من استمتاع، يخص صاحبه، الذي يجد لذته ومتعته في العثور على ما يريد من الكتب، التي تشاطره العيش، حين تحتل حيزًا معتبرًا من شقته. 
كان جبريل قديم عهد بالقراءة، إذ فتح عينيه ليجد مكتبة في بيت أبيه، الذي امتهن المحاسبة والترجمة، وكان يميل إلى التقاط كتب الأدب من هذه المكتبة، التي علمته ودربته على الصبر والتأني في القراءة، فرأيناه لا يذهب إلى مكان إلا وفي يده كتاب وقلم. وحين كان أحدنا يصل إلى مكتبه مبكرًا قبل انطلاق الندوة الأسبوعية يجده جالسًا يقرأ، وحين يزوره أحد في بيته، ينهض من بين صفوف الكتب، ويفتح له الباب وفي يده كتاب.  وقد رأيته ذات مرة جالسًا على مقعد خلفي في "أتوبيس" ينطلق به من مصر الجديدة إلى ميدان التحرير، وهو يقرأ. كنت واقفًا على الرصيف في انتظار "أتوبيس" آخر، فلمحته، وناديت عليه، لكنه لم ينتبه، كان كيانه كله ذائبًا في القراءة، ولها يعطي جوارحه، وينسى كل شيء.
وحين وجدته على حاله هذه، لم أشأ أن أرفع صوتي بالنداء، حتى لا أقطع عليه خلوته هذه وهو بين ناس كثيرين، يصعدون ويهبطون في محطات تتوالى، دون أن يدري عنهم شيئًا، أو يدرون هم عن هذا الذي يجلس وحيدًا يقرأ أي شيء. وكان الأتوبيس نفسه يأخذني إلى مقصدي، فصعدت سريعًا إليه حين توقف، وجلست في مقعد في الصف الآخر، أرمق جبريل بين حين وآخر، ولا أشأ أن أقطع عليه قراءته، لاسيما أنني أيضا غرقت في قراءة كتاب كان معي.
4 ـ التأمل ضرورة: فجبريل كان يعتبر التأمل مسألة لازمة لأي كاتب، سواء كان تأملًا في الأفكار والصور الفنية التي يقرأها في الكتب، أو في أحوال الناس ووجوههم، لأن هذا من شأنه أن يجعل الفكرة أو الصورة تولد عفيَّة ومتكاملة إلى حد بعيد. وهنا تقول عنه زوجته د. زينب العسال: "كان يرى أن الكتابة الحقيقية لا تولد إلا من التأمل العميق، ويقول لى دائمًا إن التأمل هِبة من الله، وعلى الإنسان أن يبقى متأملًا للحياة وتفاصيلها الخفية."
5 ـ العزلة مسار: فجبريل كان يدرك أن الكاتب يجب أن يُخلص لمشروعه الإبداعي، ويُعطيه من وقته الكثير، وأنه لو انخرط في بحر الحياة متلاطم الأمواج، وشغل نفسه بمن قال، وما قيل، بالنميمة والإحن والأحقاد والدسائس، فإنه سيخسر خسارة فادحة. ولذا لم يتفاعل مع الناس إلا بقدر ندوته الأسبوعية وعلاقته الممتدة بتلاميذه، ومهمته في اتحاد الكتاب أو لجنة القصة بالمجلس الأعلى للثقافة، وأعطى وقته الأعرض للكتابة، يضرب فيها سهمًا في كل اتجاه، متنقلًا بين السرد والبحث والنقد.
وفي ميله إلى العزلة لم يزاحم جبريل على منصب أو جائزة أو سفر إلى مؤتمر خارج مصر، أو المشاركة في آخر داخلها، حتى أنه كان لا يلح على الناشرين، وهو الرجل غزير الإنتاج، وإن قال له أحد تلاميذه: لتدفع هذه الرواية أو المجموعة القصصة أو الكتاب إلى دار نشر كبرى، يرد على الفور: "أنا محمد جبريل، ويجب أن يسعى الناشرون إليَّ."
 ولم يكن هذا بعيدًا عن اعتداد الرجل بنفسه، فهو في صبره على كثير من المكاره، وأولها التهميش، لم يكن يقبل أبدًا أن تطاله إهانة أو تجريح من أي أحد كان، حتى لو كلفه هذا عمله أو جائزة هو جدير بها، أو موقعًا ثقافي يستحقه دون التواء ولا تردد.
وفي ميله إلى العزلة كان جبريل يتخذ من التعفف مسلكًا راسخًا، وكم استغل آخرون هذه السمة النفسية النبيلة فيه فحرموه من كثير مما يستحقه، فتأخرت عليه جائزة الدولة التقديرية حتى نالها عام 2019 وهو في الحادية والثمانين من عمره، ولم يلتفت المترجمون إليه بما يستحقه، ولم تأت الكتابة عنه على قدر ما أنتج، ولم يكن مشغولًا بإهمال كبار النقاد له. 
وأضيف إليه عبء آخر، لا يد له فيه، حين ظهر مقرئ للقرآن حسن الصوت يحمل الاسم نفسه، وفي زمن يسير صار ذائع الصيت، أكثر من ثالث يشاركهم الاسم كان يعمل ممثلًا. أتذكر أنني سألت الأستاذ جبريل ذات يوم ضاحكًا: هل كنت تتوقع أن يظهر سمي لك بهذه الشهرة، فيشير الناس إليه كلما سمعوا الأسم أو قرأوه؟ فأجاب ضاحكًا: "هذا لا يد لي فيه، وعمومًا عمر الأديب أطول، وأنا من المراهنين على الزمن."
أتذكر أنني ذات يوم رحت أحدث الدكتور صلاح فضل عنه، وأنا أرى حدقتي عينيه تتسعان في عجب، ثم قال لي: هل فعل جبريل كل هذا؟ فقلت له: نعم. فقال: أنت جذبت انتباهي إلى تجربة ثرية، لم تلق منا ما تستحق من عناية ورعاية.
فرغم إنتاجه الغزير، لم يلق جبريل، حتى هذه اللحظة ما يستحقه من نقد أكاديمى عميق وواسع ولا من جوائز تقدر جهده وإبداعه مهما اختلف حول قيمته وقامته النقاد ومانحو الجوائز، لكن هذا لم يمنعه من أن يكتب هو عن غيره فى حفاوة وحب، غير ملتفت إلى ما يصيبه من تجاهل وجحود، وغير عابئ بما أورثه له الأدب، كتابة ورعاية، من رقة حال، وبساطة عيش، وهموم ثقيلة لا تنقضى أبدًا. فبينما كنت تراه، وهو فى سن متقدمة، يقفز فى باصات النقل العام آتيًا من مصر الجديدة، مفضلًا إياها عن سيارته الخاصة القديمة، قاصدًا قلب القاهرة الزاخر ضجيجًا وطحنًا، تراه أيضاً منكبًا على مكتبه لساعات طويلة، الأحلام فى رأسه والقلم فى يده والسطور البيضاء تسكنها الحروف أمامه، فيبدو لك راهبًا مخلصًا للسرد والحكى والإمتاع والمؤانسة، وللجمال والمعنى، والإصرار الذى لا يتراخى على الإضافة والتجويد والتحقق، بكل ما أوتى من استطاعة وموهبة.

لقد اتخذ جبريل من بيته في مصر الجديدة صومعة، يجلس فيها بين كتبه وأوراقه، لا يتحرك منه، لاسيما بعد أن توقفت الندوة إثر اعتلال صحته وتغير الظروف، يجده من يزورنه غارقًا بين السطور، قراءة وكتابة، يمد إليهم بعض نصوصه، حتى لو لم تكن قد اكتملت، ليستأنس بآرائهم، ويعمل بما يروق له منها، غير محاذر ولا متكبر.
وكان جبريل قادرًا على فرض هذه العزلة حتى في الزحام، فهو بين الأدباء الشبان، يغمض عينيه حين يقرأ أحدهم نصًا، ليلتقط كل ما فيه، وهو في بيته يتمكن من الكتابة في صالة البيت أمام التلفاز، حتى لو كان يعرض حدثًا جاريًا صاخبًا أو فيلمًا أو مسلسلًا . كان يهزم الضجيج حوله، ولا يقطع اتصال هاتفي من هنا أو هناك، أو حديث إلى زائريه أو زوجته، حبل أفكاره. كان في غربة عن كل شيء إلا ما يحبه ويخلص له، وهو الكتابة. 
في عزلته مرض جبريل ورقد طويلًا بسبب خلل في العمود الفقري، ونادى أدباء رئيس وزراء مصر ليعالجه في الخارج، فالرجل فقير لا يملك من حطام الدينا شيئًا، لكن لا حياة لمن تنادى، فاضطر إلى إجراء جراحة لم تكن دقيقة، فعاودته الآلام أشد من قبل، وأجبرته على تغيير بعض عاداته في القراءة والكتابة، وأفقدته القدرة على المشى، فانعزل أكثر في بيته، لاسيما أنه رفض الجلوس على كرسي متحرك ليدفعه أي من تلاميذه فيرى الشارع، بل أنه أراد ألا يراه أحد وهو يتكئ  على عكاز أو ينتقل في بيته على مشاية، قبل أن تضعف ساقاه تمامًا، ويتمكن منه العجز التام.
 وكان هذا أشد ما أضناه، وهو الرجل الذي اكتشف مبكرًا أنه يعاني من أمراض في الأمعاء، وحصوات في الكليتين، وثقب في القلب، وقد تمكن على مدار السنين من ترويض المرض، إلا أنه لم يفلح في التحايل على العمود الفقري، فهذا أكبر من أي قدرة على المداورة أو التحمل، وكيف لا، والعجائز من أهل بلادنا ينقلون أبًا عن جد تلك المقولة السابغة: "الرجل ظهر".
6 ـ التنوع سمة: فجبريل كتب ألوانًا شتى بدءًا بالقصة القصيرة والرواية وانتهاء بالدراسات في علم اجتماع الأدب، مرورًا بالتراجم والكتابات النقدية التي كان يسميها هو "تأملات في أعمال الآخرين"، وترك في كل من هذه المجالات بصمة لافتة، يلخصها الناقد الدكتور حسين حمودة قائلًا: "ظل جبريل يجرب في تقنيات الكتابة ميراث سردي عربي عظيم، فصيح وشعبي، يبحث عن هوية مكتفية بغناها الخاص." 
في القصة كتب جبريل مجموعات عناوينها "تلك اللحظة"، و"انعكاسات الأيام العصيبة"، و"هل" و"حكايات وهوامش من حياة المبتلى"، و"سوق العيد"، و"انفراجة الباب "، و"حارة اليهود"، و"رسالة السهم الذي لا يخطيء"، و"ما لا نراه". 
وفي الرواية كتب: "الأسوار"، و"إمام آخر الزمان"، و"من أوراق أبو الطيب المتنبي"، و"قاضي البهار ينزل البحر"، و"الصهبة"، و"قلعة الجبل"، و"النظر إلى أسفل"، و"الخليج"، و"اعترافات سيد القرية"، و"زهرة الصباح"، و"الشاطيء الآخر"، و"رباعية بحري: أبو العباس ـ ياقوت العرش ـ البوصيري ـ على تمراز"، و"حكايات عن جزيرة فاروس"، و"الحياة ثانية"، و"بوح الأسرار"، و"مد الموج"، و"المينا الشرقية"، و"نجم وحيد في الأفق"، و"زمان الوصل"، و"ما ذكره رواة الأخبار عن سيرة أمير المؤمنين الحاكم بأمر الله"، و"صيد العصاري"، و"حكايات الفصول الأربعة"، و"غواية الإسكندر"، و"رجال الظل"، و"مواسم للحنين"، و"كوب شاي بالحليب"، و"المدينة المحرمة"، و"أهل البحر"، و"ديليت". 
وفي أدب المقال، كتب: "مصر.. من يريدها بسوء"، و"قراءة في شخصيات مصرية". وفي النقد وعلم اجتماع الأدب كتب: "مصر في قصص كتابها المعاصرين"، و"نجيب محفوظ .. صداقة جيلين"، و"السحار.. رحلة إلى السيرة النبوية"، و"آباء الستينات.. جيل لجنة النشر للجامعيين "، و"مصر المكان"، و"البطل في الوجدان الشعبي"، و"سقوط دولة الرجل".
 حاز جبريل عن أعماله: وسام العلوم والفنون من الطبقة الأولى، وجائزة الدولة التقديرية في الآداب. وهناك كتب صدرت تباعًا عن أعماله، منها" "الفن القصصي عند محمد جبريل" لمجموعة نقاد وباحثين، و"دراسات في أدب محمد جبريل" لمجموعة باحثين، و"البطل المطارد في أدب محمد جبريل" لحسين علي محمد، و"فسيفساء نقدية: تأملات في العالم الروائي لمحمد جبريل" لماهر شفيق فريد، و"محمد جبريل موال سكندري" لفريد معوض وآخرين، و"استلهام التراث في روايات محمد جبريل" لسعيد الطواب، و"تجربة القصة القصيرة في أدب محمد جبريل" لحسين علي محمد، و"فلسفة الحياة والموت في رواية الحياة الثانية" لنعيمة فرطاس، و"روائي من بحري" لحسني سيد لبيب. كما درست أعماله في جامعات السربون ولبنان والجزائر.
 وفي الكتابة هناك جانب لا يلتفت إليه كثيرون، أتى من باب الصحافة، حيث كتب جبريل الخبر والتقرير والتحقيق والتعليق والمقال، منذ أن التحق بجريدة الجمهورية عام 1959، في عصرها الذهبي، ليعمل مع رشدي صالح، ثم انتقل إلى جريدة "المساء"، وعمل مدير تحرير لمجلة "الإصلاح الاجتماعي" الشهرية، في الفترة من يناير 1967 إلى يوليو 1968، ثم خبيرًا بالمركز العربي للدراسات الإعلامية للسكان والتنمية والتعمير، قبل أن ينتقل للعمل رئيس تحرير جريدة "الوطن" بسلطنة عمان، لتسع سنوات، ليعود بعدها رئيسًا للقسم الثقافى بجريدة المساء.
وظل جبريل متصالحًا مع الصحافة، لا يراها خِصمًا له، ولا خَصمًا من رصيده الكتابي، كما كان يراها بعض الأدباء الذين امتهنوها، وكان أحدهم يقول كل يوم وهو ذاهب إلى المؤسسة الصحفية التي يعمل بها: "بدأت رحلة الخسران". وتقول زينب العسال عنه في هذا المسألة: "لم يرَ أن الصحافة تسرق الكاتب كما كان يردد البعض، وإنما يحتاج الأمر، فقط، إلى حسن إدارة الوقت، فوضع لنفسه نظامًا دقيقًا يساعده على الإنجاز، إذ كان يشعر دائمًا أن الوقت محدود وعليه أن يترك منجزًا ذا قيمة."
7 ـ التمسك بالعقلانية الخُلقية: إذ كان جبريل يقبض على منظومة قيم تنتصر للحرية والنظام والتعاون والتسامح والإيمان بالتعددية. ولعل نشأته الأولى ساعدته في هذا، إذ ولد في فبراير من 1938 بالإسكندرية وقت أن كانت مدينة عالمية أو كونية، تضم أشتاتًا من بشر مختلفين في العقيدة الدينية والثقافة والخلفية الاجتماعية، لكنهم يتعايشون في سكينة ووئام، ويقيمون أمورهم على التفاهم وإعلاء المصلحة والنزعة الإنسانية. وحين انتقل جبريل للعمل في الخليج كان من حسن حظه أن تكون وجهته هي سلطنة عمان، وهي بلد لديه عمق حضاري، ويعرف تسامح وتفاهم مذهبي راسخ. 
منظومة القيم هذه كانت ظاهرة في تصرفات جبريل، وقبلها في طريقة تفكيره، حتى أنني كنت أندهش من صبره ورحابة صدره، وأسأل نفسي دومًا: من ربى هذا الرجل؟ ويزيد اندهاشي حي أعرف طرفًا من طفولته التي عرف فيها الحرمان مبكرًا بعد موت والده، لكن هذا لم يصبه بعلة نفسية طالت غيره، حتى أن الكاتبة ياسمين مجدي، وكانت من رواد ندوته، رأت في كلمة لها أثناء تأبين جبريل بنقابة الصحفيين بعد نحو شهر من رحيله، أن جبريل يكسر القاعدة التي تقول "فاقد الشيء لا يعطيه." فلم تترك ظروفه القاسية ندوبًا في روحه، إنما جعلته يفكر دائما في الآخرين، كي ينجوا من الحرمان والإهمال.