تفاهة الشر هو كل ما نراه وسنراه

صنارة نيوز - 25/01/2025 - 11:12 am

د. اسامة المجالي 

" ايخمان في القدس " هو أحد الكتب المهمة لحنّه آرنت وهي كاتبة يهودية الديانة ولدت في العام ١٩٠٦ بالمانيا "وتعتبر  منظّرة سياسية علمانية ألمانية أميركية ،  ومفّكرة بارزة ومهمة  ربما بسبب من كتابها " أسس الشمولية ، التوتاليتارية " في العام ١٩٥١ وهو الكتاب الذي يفكك الأنظمة الشمولية ويشرح نزعتها للعنف وجعله أداة أساسية للحكم دون سواه مع العمل بشكل كامل على " إقفار "  - من القفر - الحياة السياسية للبلاد التي تحكمها عن طريق إستئصال أي نشاط سياسي فكري مخالف لها . إشتهرت بعلاقتها مع الفيلسوف الوجودي مارتن هايدغر، وبنقلها محاكمة المسؤول النازي أدولف أيخمان في القدس، وتوفيت في العام 1975." ١
قدّمت مصطلح "تفاهة الشرّ" " كمحاولة لفهم الأسباب الحقيقية وراء الشرّ الإنساني، وخلُصت إلى أن الشخص يصبح شريرا عندما يرفض أن يفكر ". وكتابها الذي صدر عام ١٩٦٣ يعتبر تسجيلا وثائقياً لمحاكمة ايخمان عام ١٩٦١ .
و  " أدولف أيخمان " هو احد المسؤولين النازيين اثناء الحرب العالمية الثانية وجرت محاكمته في القدس بعد مضي ما يزيد على ١٥ عاماً على نهاية تلك الحرب ،" وقد تمّ اختطافه من منفاه الإختياري بالارجنتين ثم تمّ عقد محاكمة له من قبل دولة الإحتلال الصهيوني في القدس وبشكل مسرحي إستعراضي حاولت به الدولة المحتلة الصهيونية آنذاك فرد عضلاتها على رجل من بقايا نظام بائد تمّت ازالته بالكامل في اوروبا منذ اكثر من ١٥ عاماً ايضاً " ٢.

الكتاب صادر عن دار " النديم للنشر " بصفحات تصل إلى ٣٧٩ صفحة وقد ترجمته الأستاذة " نادرة السنوسي " .
أهمية الكتاب بالنسبة لي الآن هو سقوط النظام السوري البعثي بعد حكم قمعي سلطوي طائفي لما يزيد عن ٦٠ عاماً لأن الكاتبة آرنت أثناء كتابتها لكتابها " محاكمة ايخمان في القدس " تستعرض مسألة الحكومات الشمولية الديكتاتورية عبر عرضها لشخص ايخمان الموظف في " مسنن " النظام النازي الكبير وأحد المسؤولين عن " حل " المسألة اليهودية  ، وتظهره  تافهاً بخياراته وطريقة تفكيره واستلاب إرادته ثم عدم قدرته على اتخاذ قرارات صائبة أو حكيمة أو مستقلة عما يدور حوله أو يأتيه من مسؤوليه الأعلى ، وكأن كل أفعاله مسؤول عنها غيره وما هو الا مفك أو برغي تافه في آلة الدمار الشمولية العنيفة دون حول له أو قوّة ، وكأن كل الرعب والعنف الذي يمارسه الجلادون والضباط وموظّفي السلطة الطاغية هو محض إنقياد أعمى لعقلية القطيع الذي يقاد ممن هم بالاعلى وبقية المنظومة تحركها الغرائز فقط من خوف وطمع وهلع ولهذا كما في حالة ايخمان وبقية المجرمين النازيين يتلاوم الطغاة الصغار بعضهم من بعض وكأنهم محض قطيع لا حول ولا قوة له فيما يقترف من فجور وفحش وعنف وتعذيب لا يتصوره العقل البشري . 
هدف الكتاب هو وصف تفصيلي لما تحدثه الديكتاتوريات ومنها الأنظمة الشمولية العربية من تخريب ثمّ تهاوت سابقاً ويتهاوى بعضها الآن وكان آخرها سوريا ونظام حزب الله بلبنان وقبلها بالعراق وليبيا وتونس ومصر وسواها فقد قامت ب ؛ 
    1.    " تحطيم للمجال العام وكل انواع النشاط السياسي 
    2.    تحويل المجتمع بكل طبقاته إلى عبيد متناحرين متفرقين يركضون وراء غرائزهم ويتجنبون سوط الجلاد 
    3.    فصل المجتمع والدولة عن الواقع والعالم وتطبيق حصار ضيق كادح حولهما . " 
وكما بينت سابقاً أن ما حدث بسوريا مؤخراً قد جدد لديّ  ضرورة تناول هذا الكتاب الذي يشير إلى تجربتين تمّ استيرادهما من التجربة النازية ؛أولاهما تجربة نظام البعث في كل من سوريا والعراق ثم انهيار النظام البعثي !!! الطائفي بسوريا وانكشف عَواره بعد حكم دموي استمر لستين عاماً ، إنكشف إجرامه وفحشه ونفاقه وفساده أكثر وأكثر أمام العالم بعد فتح سجونه واخراج الآلاف المؤلفة من السوريين المسجونين هناك منذ أعوام مديدة في ظل شروط إنسانية مرعبة ومقززة ، ثمّ تم تداول أسماء الضباط المسؤولين عن هذه المذبحة الجماعية المزمنة وملاحقتهم ومطاردتهم لتطبيقهم سياسة النظام القائمة على -القمع والتعذيب - كأداة منهجية لقهر وتحطيم أي مقاومة يبديها المجتمع السوري أمام جلاده ويمنعهم من محاسبته على سرقاته وفساده وتحكمه بالسلطة بشكل لانهائي حتى تحوّل النظام عبر الأعوام والعقود الماضية من توحش لتوحش مغادراً مفهوم الدولة إلى أن أصبح مافيا عائلية ومجموعة ميليشيات محلية واقطاعيات هنا وهناك تنهب وتدمر وتتنفّع  بلا حسيب أو رقيب بينما في السجون والمنافي يذوي خيرة شباب سوريا وأبناءها الرائعين . 
وبينما تراكض السوريون الأحرار  للإمساك بجلاديهم الذين فروّا في الأزقة والحواري والضياع والجبال بلا هوادة تصاعدت الدعوات تدعوا الضحايا السابقين ومحرّريهم  الأبطال للتروي والتسامح مع القتلة والسفاحين - ولا أرى مبرراً لهذه الدعوات العامة - بينما تأتي تقارير من سوريا تشير بأن الدولة السورية كلها بهياكلها واعضاء حزب البعث فيها والأجهزة الأمنية والسيادية والدبلوماسية والعسكرية والتعليمية والصحية  تنوء بمئات الآلاف من الموظفين الرسميين الذين كانوا شبيحة بشكل أو آخر ، مارس كثير منهم تشبيحه وتجبّره على غيره من المواطنين وسرق من تعبهم  وعرقهم وكل هؤلاء لا بد من تحييدهم وإبعادهم عن المشهد العام حتى يستقيم المشهد هناك .

  رأيت كثير من المشاهد والمناظر لجلادين صغار وكبار تمّ الامساك بهم ، كانوا قتلة ، مخبرين ، رجال شرطة ، عسكر وضباط مخابرات  وقعوا بيد الثوار ، كانوا يبدون بلا حول ولا قوة ، جبناء ضعفاء بلا شخصية او قيم أو حتى هيكلية انسانية متماسكة ، كانوا يقفون هناك امام ضحاياهم واقارب ضحاياهم الذين يعرفونهم جيداً عاجزين مذلولين بكل تفاهة وخفّة بدون أي حجّة تبرر قسوتهم واجرامهم اللامتناهيين ، لا شئ يبرر الشر ، لا شئ يبرر العنف والقهر الذي يمارسه إنسان على إنسان ، لا شئ يبرر أن يعتبر إنسان ما أنه أفضل وأعلى قيمة من إنسان آخر  ، فيبيح لنفسه أن يصعد سلّم الحياة صعوداً على ظهور غيره من البشر بلا أي رحمة أو اعتبار لتقديم الحساب .

يقودني هذا إلى الدولة الأخرى بالمنطقة التي تعلّمت الدرس النّازي جيداً وهي دولة " اسرائيل " ولا أكتمكم أنني رأيت مشهد ملاحقة جلّادي وضباط وسياسي هذه الدولة الصهاينة  سيشبه لا محالة مشهد ملاحقة الضباط والموظفين السوريين الملاحقين ولا يجدون جحراً يؤويهم إذا حانت ساعة الحساب وهي لا شك قادمة ، ولا أدري ماذا كانت حنّة آرنت ستقول لو ادركت فضائع هذه الدولة الآن وكيف ستحكم عليهم وهي الّتي تناولتهم بالسخرية في كتابها في الستينات من القرن الماضي بكتابها " ايخمان في القدس "  عندما نددت بإستعراضهم السخيف والجبان وجبنهم الشديد في مواجهة الإبادة المزعومة أمام النازيين لحد إتهامها إياهم بالتواطؤ ( كصهاينة ) مع النازيين لتهجير وتوجيه اليهود من أوروبا إلى فلسطين عن طريق القمع والقهر والتمييز الممنهج والذي تصاعد في تواز مع المشروع الصهيوني في فلسطين منذ العام ١٩٣٣ وحتى بلغ ذروته بعد بداية الحرب العالمية الثانية وحتى العام ١٩٤٣ وما بعدها لحين انهيار وهزيمة النظام النازي الكلياني المجرم .

عند مطالعة فصول الكتاب وقراءة تفاصيل المشروع النّازي لحل " المسألة  اليهودية " وصولاً للحل " النهائي " وهي المحرقة المزعومة والإبادة الجماعية أجد كثيراً من التشابه بين المشروعين ؛ النّازي في المانيا والصهيوني في فلسطين وكيف أنهما يستخدمان نفس الأدوات والطرق  لإجبار الفلسطينيين على ترك أراضيهم ووطنهم والهجرة الإجبارية ( الطوعية !!! ) وتحويل حياة الفلسطينيين في بلادهم إلى جحيم ، جحيم قانوني تمييزي مبرمج يمنعهم من التمدد على أرضهم واستثمارها والبقاء فيها والإنتفاع بخيراتها ويشمل هذا كل مناحي الحياة بلا إستثناء ، الأحوال الشخصية ، المواليد ، المواريث ، الأراضي ، البيوت ، الإعمار ، التجارة ، التعليم ، الصحة ، الشوارع ، المياه والكهرباء وهكذا بلا توقف ، تضييق وغرامات وهدم ونفي وسجن وعشرات المذابح والمجازر بحق السكان الأبرياء لتهجيرهم وحثهم  على المغادرة وصولاً لزرع المستوطنين والمستوطنات بكل بقعة في فلسطين وصولاً لأصغر قرية فيها .
ثم تجلّى ذلك بأبشع صوره في غزة والضفة طوال العام المنصرم من هدم كل شئ تطاله اليد لكي يتم القضاء على أي مشهد للحياة للذين يصرّون على البقاء ثم بلا هوادة مطاردة كل من يفكّر  بالمقاومة والإعتراض ، كل ما ذكرتُه هو هو نفسه تمّ تطبيقه على اليهود الاوروبيين في معازلهم في وارسو وبراغ وبرلين وسواها من حواضر أوروبا ، تمّت ملاحقتهم وسلبهم أموالهم والتعاون مع قياداتهم لزيادة الضغط عليهم وإخضاعهم وابتزازهم كي يغادروا ( طواعية ) !!! ووضع امامهم خياران إمّا الإفلاس وإمّا السجن والقتل . وكانوا كثيراً ما يرددون عبارة " اليهودي الجيد هو اليهودي الميت " تماماً كما يردد الصهاينة قادة المشروع الصهيوني في فلسطين لوصف الفلسطينيين ، وعندما يتشدق نتنياهو وبن غفير واسموترتش وبقية الزمرة النّازية الجديدة بقيئهم وأفكارهم في تل أبيب ويمارسون التنمر على الفلسطينيين  وبقية الدول العربية أتذكر تنمر النازيين وغيرهم عليهم  ، فهم يمارسون التنمر ضد الشعب العربي البريء في فلسطين وما له من ذنب سوى أنه كان في المكان الذي وعد الإمبرياليون الغربيون اليهود بأنه سيكون وطناً لهم ، وطن لمن ؟؟؟!! وطن لمن رفضت اوروبا تلك الأيام أن تستقبلهم على اراضيها عندما عرض هتلر على الأوروبيين والأميركيين بأن يأخذوهم إلى أراضيهم ، قَبِل الصهاينة في تلك الأيام أن يكونوا مسماراً في مسنّن الإمبريالية العالمية وأن يُقتلوا ويَقتلوا لصالح غيرهم من الطغاة والمستعمرين الغربيين إلى الأبد .