أسرار نظام التجسس في سوريا تخرج من الأقبية

صنارة نيوز - 29/12/2024 - 11:49 pm

لم يكن لديهم الوقت الكافي لحرق كل الوثائق”، هكذا بدأت رحلة الكشف عن أسرار نظام المراقبة الذي أقامه الرئيس المخلوع بشار الأسد في سوريا.

في حمص، وتحديداً في أربعة فروع للمخابرات، حصلت صحيفة “صنداي تايمز” البريطانية على فرصة نادرة لتوثيق كيف حوّل النظام السوري شعبه إلى شبكة من المخبرين.

على مدار يومين، غاصت الصحيفة في آلاف الملفات المكتوبة بخط اليد والمطبوعة باللغة العربية الفصحى. في الغرف المليئة بالرماد، نجت وثائق من محاولة حرقها، لتروي قصة مرعبة عن دولة جعلت من التجسس على مواطنيها منهجاً يومياً.

قضية طفل في الثانية عشرة

كشفت سجلات فرع الأمن السياسي في حمص عن واحدة من أكثر القضايا إثارة للدهشة، قضية طفل في الثانية عشرة من عمره وجد نفسه في قبضة الأجهزة الأمنية بسبب ورقة ممزقة تحمل صورة الرئيس.

تفاصيل القضية، الموثقة بخط اليد في تقرير الاستجواب، تكشف كيف تحولت حادثة بسيطة في فصل دراسي إلى قضية أمنية. بدأت عندما عثر طلاب على ورقة ممزقة تحت مقعد زميلهم، ليبدأ مسلسل من البلاغات المتتالية: من الطلاب إلى المعلم، ومن المعلم إلى المشرف التربوي، لينتهي الأمر في مركز الشرطة.

ورغم أن المعلم نفسه شهد بأن الطالب “هادئ وذو أخلاق حميدة” ولم يسبق له أي سلوك سلبي، وبالرغم من أن التحقيقات الأمنية أثبتت خلو سجل عائلته من أي نشاط معارض، إلا أن ذلك لم يشفع له. أربعة أيام فقط بعد الحادثة، وجد الطفل نفسه يساق إلى المحاكمة، في قضية تلخص كيف كان النظام يتعامل حتى مع أبسط الأحداث كتهديد أمني.

تتجسس على عائلتها

وفي ملف آخر، تظهر قصة شابة في العشرينات من عمرها. بعد إطلاق سراحها عام 2017، لم تنته معاناتها. أمر واضح صدر للضباط: “راقبوها، وإذا ظهرت أي مؤشرات سلبية، اتخذوا الإجراءات المناسبة”.

كانوا يطلقون عليهم “الطيور”، هكذا عرف السوريون المخبرين الذين تغلغلوا في كل مكان. بعضهم تسلل إلى صفوف المتظاهرين عام 2011، وبعضهم اخترق المجموعات المسلحة لاحقاً، وكثيرون منهم وشوا بأقاربهم وجيرانهم.

وفي مفارقة مأساوية، كشفت الوثائق كيف أن النظام كان يشك حتى في مخبريه. يقول أحد التقارير عن مخبرة كانت تتجسس على عائلتها: “لا تستطيع زيارة فرعنا خوفاً من كشف أمرها… تخشى على حياتها”.

وفي قصة أخرى، يظهر كيف خاطر أحد المخبرين بحياة أخته عندما أرسلها إلى منطقة تسيطر عليها المعارضة. المعارضون كانوا يعرفون هويته، وبدلاً من تسليم السلاح لأخته، أرسلوا له رسالة تؤكد معرفتهم به.

لم يكن العاملون في المجال الإنساني بمنأى عن المراقبة. في عام 2016، وثقت الملفات قصة أب لطفل يعمل في منظمة إنسانية. جريمته كانت “التنسيق مع المعارضة” للوصول إلى المناطق المحاصرة لتقديم المساعدات. راقبوا حسابه على فيسبوك، اخترقوا جهاز كمبيوتره، ثم اعتقلوه بتهمة “التواصل مع الإرهابيين”. انتهت قصته بالتعذيب حتى الموت في السجن.

نظام المراقبة كان شاملاً وخانقاً. لم يكتفِ بالتنصت على الهواتف واختراق أجهزة الكمبيوتر، بل وثق تفاصيل لا تُصدق عن حياة المشتبه بهم. في أحد التقارير، سجلوا موقع المرآب الذي أصلحت فيه والدة أحد المشتبه بهم سيارتها. في تقرير آخر، رصدوا عدد المباني السكنية التي يملكها شخص ما.

كانت المفارقة أن “الطيور” أنفسهم لم يكونوا بمنأى عن المراقبة. تكشف الوثائق حالات عديدة لمخبرين تم اعتقالهم ثم أُطلق سراحهم بعد اكتشاف أنهم عملاء سريون لأجهزة الأمن. كان الجميع يراقب الجميع.

اليوم، بعد سقوط النظام، تتحدث السلطات الجديدة عن محاسبة المتورطين. في مقابلة في طرطوس، يقول المحافظ أنس عيروط إن الشخصيات البارزة في النظام ستُحاسب، لكنه يضيف: “لن نقدم أي شخص للمحاكمة دون أدلة ملموسة”.

وبينما تحاول سوريا التعافي من هذا النظام القمعي، تبقى هذه الوثائق شاهداً على حقبة حول فيها النظام المواطنين إلى جواسيس على بعضهم البعض، وجعل من التجسس والوشاية جزءاً من نسيج المجتمع السوري.