تذبذب مواقف باراغواي تجاه فلسطين: بين المصالح والعدالة

صنارة نيوز - 17/09/2025 - 8:43 pm  /  الكاتب - د راسم بشارات

د. راسم بشارات - دكتوراه في دراسات غرب آسيا ومختص في الشأن اللاتيني

لا تقاس مكانة الدول دائماً بحجمها الجغرافي أو عدد سكانها، بل بقدرتها على اتخاذ قرارات تُثير جدلاً يتجاوز حدودها. باراغواي (أقل من نصف مليون كيلومتر مربع وحوالي سبعة ملايين نسمة)،  هذه الدولة الصغيرة في قلب أمريكا الجنوبية، وجدت نفسها خلال العقد الأخير في قلب معادلة الشرق الأوسط، تتأرجح بين الاعتراف الرسمي بفلسطين عام 2011 وبين خطوات عملية أثارت جدلاً واسعاً، أبرزها نقل سفارتها إلى القدس ثم التراجع عن القرار، قبل أن تعود وتثبّته مجدداً.

هذا التقلب لم وليد صدفة، بل نتاج شبكة معقدة من العوامل أبرزها تغيّر الحكومات وصراع الأحزاب الداخلية، ضغوطات من دول مثل الولايات المتحدة وإسرائيل، وحسابات اقتصادية تتعلق بتحالفات الطاقة والتجارة. في المقابل، يظل صوت الجالية الفلسطينية في باراغواي حاضراً وإن كان محدود الموارد، حيث تحاول أن توازن المعادلة وتدفع نحو مواقف أكثر انسجاماً مع القانون الدولي وحقوق الشعب الفلسطيني.

 

الخلفية التاريخية والتطورات الأخيرة
باراغواي ليست غريبة عن ذاكرة الصراعات الكبرى؛ فكما عانت من حرب التحالف الثلاثي في القرن التاسع عشر وما نتج عنها من هزيمة قاسية، فإنها اليوم تجد نفسها محكومة بمعادلة أخرى تتمثل بكيفية صنع حضور دبلوماسي أكبر من حجمها دون أن تدفع ثمن الاصطفاف الخاطئ. في عام 2011، خطت باراغواي خطوة مهمة حين أعلنت اعترافها بدولة فلسطين على حدود 1967، في سياق موجة اعترافات إقليمية، عكست رغبة في الاصطفاف مع القانون الدولي، لكنها لم تتحول إلى التزام ثابت. بعد سنوات قليلة، نقلت باراغواي سفارتها إلى القدس عام 2018 ثم تراجعت بعد تغيير الحكومة، لتثبتها مجدداً في 2024، في تأكيد على تذبذب سياساتها الخارجية.

ويأتي هذا التقلب ليبلغ ذروته مؤخراً، عندما صوّتت باراغواي ضد مشروع قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة في 12 سبتمبر 2025، الذي كان يدعم إعلان نيويورك بشأن تنفيذ حل الدولتين وإقامة دولة فلسطينية مستقلة. هذه الخطوة الأخيرة تعكس استمرار معضلة الدولة الصغيرة في الموازنة بين الالتزام الرمزي بالحقوق الفلسطينية وضغوط الحلفاء الكبار، وتؤكد هشاشة المواقف أمام الاعتبارات الداخلية والخارجية، مما يجعل مراقبة السياسة الباراغوانية تجاه فلسطين أمراً متقلباً ومفتوحاً للتغيير.

 

جذور التذبذب: السياسة الداخلية والضغوط الخارجية
التحقيق في مسار القرار الباراغواني يكشف عن خيط رئيسي، تغير الحكومات يعني تغيّر البوصلة الخارجية. الرئيس هوراسيو كارتِس (2013–2018) مثلاً اختار الاصطفاف مع واشنطن وتل أبيب عبر نقل السفارة إلى القدس، بينما حاول خلفه ماريو عبده بينيتز إعادة التوازن بإرجاعها إلى تل أبيب. مع وصول الرئيس سانتياغو پينا إلى السلطة عام 2023، عاد القرار من جديد نحو تعزيز العلاقات مع إسرائيل.

لكن العوامل الداخلية ليست وحدها المسؤولة، إذ أن الضغوط والحوافز الخارجية لعبت دوراً محورياً، فالولايات المتحدة تضغط عبر ملفات المساعدات والتحالفات، وإسرائيل عبر تقديم تعاون أمني واقتصادي مغرٍ، وهو ما يجعلها أكثر قرباً من معسكر حلفاء واشنطن. هذه التشابكات تفسر كيف يمكن لدولة أن تعترف بفلسطين ثم تصوّت ضد قرارات داعمة لها في الأمم المتحدة.

 

الجالية الفلسطينية في باراغواي: حضور محدود وإرث ثقيل
رغم أن أعداد الفلسطينيين في باراغواي ليست ضخمة مقارنة بجالياتهم في تشيلي أو السلفادور أو البرازيل، فإن وجودهم يحمل قيمة رمزية وسياسية. كثير منهم جاؤوا في موجات هجرة منذ منتصف القرن العشرين، بعضهم عبر برامج هجرة رسمية وأخرى قسرية أو مثيرة للجدل. هذه الخلفية التاريخية تخلق ذاكرة جماعية حساسة، لكنها أيضاً تؤسس لحضور فلسطيني في المجتمع الباراغواني.

اليوم، يتركز دور الجالية على المستويين الثقافي والإنساني أكثر من السياسي. مبادرات عبر وسائل التواصل الاجتماعي، تنظيم فعاليات ثقافية، وحملات تبرعات إنسانية لفلسطين، كلها محاولات لخلق وعي مجتمعي داخل باراغواي. غير أن محدودية الموارد وصغر حجم الجالية يجعل صوتها غير قادر وحده على مواجهة ثقل القرارات الرسمية المتأثرة بالحلفاء الخارجيين.

 

التبادل التجاري أداة دبلوماسية محتملة

رغم أن واردات باراغواي من الدول العربية لا تصل إلى حجم التجارة مع شركائها الرئيسيين، مثل البرازيل، إلا أنها تشمل سلعاً استهلاكية وصناعية استراتيجية، منها الزيوت الأساسية والمستحضرات التجميلية من الإمارات، البترول والزجاج من الجزائر، الملابس والبذلات من الأردن، والمشتقات البلاستيكية وبعض الملابس من تونس، ما يمنح الدول العربية هامشاً من النفوذ الاقتصادي يمكن استثماره ضمن حوار دبلوماسي لتشجيع باراغواي على مواقف أكثر اعتدالاً تجاه فلسطين.

كما لا يمكن فهم مواقف باراغواي الخارجية بمعزل عن تأثير الجار العملاق، البرازيل، التي ترتبط معها بعلاقات تتجاوز الدبلوماسية إلى اعتماد متبادل عميق. يتجلى ذلك في سد إيتايبو الكهرومائي الذي يوفر معظم احتياجات باراغواي من الكهرباء، ويعد في الوقت ذاته مصدراً أساسياً للطاقة في البرازيل، إلى جانب كونها الشريك التجاري الأول والمستورد الأهم للمنتجات الزراعية الباراغوانية. هذا التشابك يجعل قرارات باراغواي خاضعة لمعادلات اقتصادية وسياسية يصعب تجاهلها.

انطلاقاً من هذا النفوذ، يمكن للبرازيل التأثير في توجهات باراغواي، بما في ذلك مواقفها من القضية الفلسطينية. فإذا تبنت البرازيل خطاباً داعماً لحقوق الفلسطينيين، وجدت باراغواي نفسها بين خيار الاصطفاف مع واشنطن وتل أبيب أو الحفاظ على التناغم مع حليفها الأكبر. وهكذا تتحول فلسطين بشكل غير مباشر إلى ورقة ضمن لعبة التوازن. وبفضل قوتها الاقتصادية والدبلوماسية، تستطيع البرازيل، عبر الحوافز والتنسيق الإقليمي، دفع باراغواي نحو مواقف أقل عدائية، ولو عبر الامتناع عن التصويت بدلاً من رفض القرارات المؤيدة لفلسطين.

 

التوصيات

معركة فلسطين في باراغواي لا تقتصر على أصوات الأمم المتحدة، بل ترتبط بالصورة العامة والرواية المحلية. لتعزيز التضامن، يصبح ضرورياً إنتاج محتوى إعلامي ثنائي اللغة يوثق قصص العائلات الفلسطينية ويجعل فلسطين جزءاً من الذاكرة الوطنية الباراغوانية. هذا البعد السردي يمنح القضية موقعاً أعمق من كونها ملفاً خارجياً.

في موازاة ذلك، يمثل المجتمع المدني رافعة مهمة؛ إذ يمكن عبر الجامعات، النقابات، والكنائس تنظيم فعاليات ثقافية وإنسانية تبرز البعد الأخلاقي لقضية فلسطين. أما على المستوى السياسي، فيُعد الضغط الذكي خطوة أساسية، هدفه جعل مواقف باراغواي أكثر حيادية على الأقل، بالانتقال من التصويت ضد القرارات الفلسطينية إلى خيار الامتناع، وهو تحول رمزي لكنه ذو أثر دبلوماسي ملموس.

كذلك يمكن استثمار الروابط الإقليمية، خصوصاً مع البرازيل ضمن إطار “ميركوسور”، لدفع باراغواي نحو مواقف أكثر توازناً. وأخيراً، تمثل المبادرات الإنسانية، مثل قوافل المساعدات الطبية والغذائية، وسيلة لتعزيز الارتباط العاطفي مع فلسطين وتحدي الخطاب الموالي لإسرائيل.

 

خاتمة
تجربة باراغواي مع القضية الفلسطينية تكشف معضلة الدول الصغيرة في الموازنة بين المبادئ والمصالح. فالاعتراف بفلسطين عام 2011 كان خطوة رمزية جريئة، لكنه لم يتحول إلى موقف ثابت، كما يظهر في تقلب مواقفها بشأن السفارة في القدس وفي التصويت الأخير ضد مشروع قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة في 12 سبتمبر 2025 لدعم حل الدولتين. هذه التطورات تؤكد هشاشة الالتزام الرمزي أمام ضغوط الحلفاء الكبار والمصالح الداخلية، ما يجعل السياسة الباراغوانية تجاه فلسطين متقلبة بطبيعتها.

ورغم ذلك، تظل هناك فرص لتعزيز التضامن، إذ أن الجالية الفلسطينية، وإن كانت محدودة، تلعب دوراً مهماً في نشر الوعي الثقافي والإعلامي، بينما يمكن استثمار العلاقات الاقتصادية مع الدول العربية والتبادل الحيوي مع البرازيل كأدوات ضغط دبلوماسية. إلى جانب ذلك، يشكل المجتمع المدني والتحالفات الإقليمية قناة مهمة لإحداث تأثير ملموس عبر مبادرات ثقافية وإنسانية أو تنسيق سياسي مشترك.

باختصار، يمكن لباراغواي أن تتحول من دولة متذبذبة إلى صوت ثابت وأكثر موثوقية في دعم العدالة وحقوق الشعب الفلسطيني إذا ما جرى دمج هذه العناصر بذكاء واستمرارية.