الأردن يستعيد حضوره في قاعة العدالة الدولية: دبلوماسية راسخة وكفاءات تُراكم الإنجاز
صنارة نيوز - 28/05/2025 - 9:01 am
الصناره نيوز - خاص
الأردن يستعيد حضوره في قاعة العدالة الدولية: دبلوماسية راسخة وكفاءات تُراكم الإنجاز
في عالمٍ تتزاحم فيه الأصوات وتتصادم فيه المصالح، لا يُمكن لدولة صغيرة بحجمها الجغرافي أن تُحدث فرقًا، إلا إذا امتلكت ما هو أثمن: عقلًا سياسيًا راجحًا، ومؤسساتٍ تصوغ التأثير من خلف الكواليس. هذا بالضبط ما فعله الأردن، حين أعاد تثبيت اسمه في واحدة من أرفع منصات العدالة الدولية، ليس من باب الصدفة، بل عبر ترشيح محكم، ودبلوماسية هادئة، وتكتيك محسوب بلغ مداه يوم 27 مايو 2025، بانتخاب السفير محمود ضيف الله الحمود عضوًا في محكمة العدل الدولية.
لم يكن الترشّح الأردني مجرّد تحرّك بروتوكولي، بل جزءًا من استراتيجية متكاملة، قادتها وزارة الخارجية الأردنية بإشراف مباشر من جلالة الملك عبدالله الثاني، وبتنفيذٍ دقيق من نائب رئيس الوزراء وزير الخارجية أيمن الصفدي، الذي نجح في تحويل الملف من منافسة محتملة إلى توافق دولي غير معلن، اختزلته عبارة واحدة في أروقة الأمم المتحدة: "الأردن يستحق".
جوهر هذا الإنجاز لا يكمن في الرقم ولا في المقعد، بل في الطريق التي قادت إليه.. فقد جاء التفاهم على الترشيح الأردني نتيجة عملٍ دؤوب، اتّسم بالتخطيط البعيد، والتنسيق المكثّف مع الدول الأعضاء في الأمم المتحدة، خصوصًا ضمن المجموعة الآسيوية، ومع عدد من العواصم العربية المحورية كالقاهرة والرياض وأبوظبي وبيروت، والتي تجاوبت مع التحرك الأردني بتقدير واضح، وامتنعت عن تقديم أي مرشحين بديلين، ما فتح الباب أمام توافق شبه تام على الحمود.
وفيما اضطلعت القيادة السياسية بوضع الإطار المرجعي للتحرك، تولّت وزارة الخارجية الأردنية تنفيذه باحتراف مؤسسي واضح، أثبت مرة أخرى أن هذه المؤسسة الوطنية هي واحدة من أكثر المؤسسات العربية رصانةً وفاعلية... بعثات الأردن في نيويورك وجنيف وبروكسل وعدد من العواصم الإقليمية تحركت وفق خريطة متكاملة، جمعت بين توجيهات المركز ومبادرات الميدان، وكان لحيوية السلك الدبلوماسي الأردني وحنكته، دورٌ أساسي في تجسير الفجوات، وبناء التوافقات، وتهيئة البيئة السياسية للنجاح دون إثارة التوتر أو الاصطفاف.
لقد رسّخت المؤسسة الدبلوماسية الأردنية حضورها في المشهد الدولي خلال السنوات الماضية كواحدة من أكثر المؤسسات العربية اتزانًا وموثوقية، حيث بات يُنظر إليها كصوت نزيه في لحظات التوتر، وشريك موثوق في صناعة التوافقات، وفاعلٍ عقلانيّ يُحسِن القراءة والتأثير دون أن يُخلّ بتوازنات المنطقة أو ينساق وراء اصطفافات عابرة.
ويُحسب للوزير الصفدي أنه قاد هذا المسار بعقلية الدولة، لا بمنطق اللحظة... فلم يضع الحملة في سياق تنافسي، بل في سياق تكاملي، ورفض تصوير الفوز كمواجهة، بل كخيار نابع من احترام القانون الدولي ومؤسساته، وهو ما يتسق تمامًا مع رؤية جلالة الملك عبدالله الثاني التي عبّر عنها مرارًا في المحافل العالمية: أن الأردن دولة لا تساوم على القانون، ولا تناور على الشرعية الدولية، بل تتمسّك بهما مبدأً وموقفًا.
إن انتخاب السفير محمود الحمود، الذي يحمل سجلًا طويلًا في القانون الدولي والدبلوماسية المتعددة الأطراف، هو تتويجٌ مستحق لرجل بخبرته، لكنه أيضًا شهادة ثقة لمؤسسة خارجية أثبتت أن العمل الصامت هو الأكثر فاعلية، وأن بناء السمعة يحتاج إلى سنوات من الانضباط، لا إلى ساعات من الظهور.
لقد استعاد الأردن موقعه في محكمة العدل الدولية، لكنه في الجوهر استعاد مكانته كدولة عربية تُجيد تحويل المبادئ إلى إنجازات، وتُقدّم في المحافل الدولية ما هو أكبر من حجمها العددي، مستندةً إلى شرعية نابعة من العقل، والاحترام، والكفاءة.
وفي زمنٍ تُغري فيه الاستقطابات، وتنهار فيه كثير من القواعد، يثبت الأردن أن الثبات على المبادئ ليس عائقًا، بل سبيلٌ للوصول. وأن الدولة التي تُحسن قراءة المشهد، وتُتقن أدواته، يمكن لها أن تحقّق حضورًا استثنائيًا، بصوتٍ هادئ... لكنه مسموع.
هذا هو الدرس الأعمق في ما حققته الدبلوماسية الأردنية: أن التأثير لا يُقاس بالحجم، بل بالاتساق، وأن الاحترام في السياسة الدولية لا يُطلب، بل يُبنى – بالصبر، والكفاءة، والوضوح.
وفي هذا البناء، ظلّت وزارة الخارجية الأردنية، بقيادة وزيرها وفريقها المحترف، تعمل بصمت، حتى أتى اليوم الذي قالت فيه الأمم المتحدة كلمتها:
الأردن، حين يترشح... يُنتخب.