غزة.. حان أوان المراجعات!

صنارة نيوز - 18/01/2025 - 6:50 pm  /  الكاتب - عبد الله عبد السلام

 

بعد النشوة الكبرى التى اجتاحت العالم العربى فور معرفته بهجمات حماس على إسرائيل فى ٧ أكتوبر ٢٠٢٣، وبدء العدوان الوحشى على غزة وشعبها، وقفت الغالبية الكبرى مع حماس ودعمتها بلا حدود. وباستثناءات قليلة بين صفوف النخب العربية تساءلت عن جدوى الهجمات والثمن الباهظ الذى سيدفعه الفلسطينيون والقضية الفلسطينية ذاتها، فإن الرأى العام العربى رأى أنه لا يصح توجيه النقد إلى حماس فى وقت تقاتل فيه جيشًا استئصاليًا لا يتورع عن ارتكاب جرائم حرب وإبادة وجرائم ضد الإنسانية على مرأى ومسمع من العالم.

لكن بعد التوصل لاتفاق تبادل الأسرى والمحتجزين والعودة إلى الهدوء المستدام بما يحقق وقفًا دائمًا لإطلاق النار، وفق نص بيان الوسطاء، فإن هناك ضرورة للنقاش بشكل موضوعى وهادئ ودون انفعال لتقييم كل ما حدث منذ هجمات حماس وما تلاها من عدوان همجى، وطرح تساؤلات أحجم كثيرون عنها وقت الحرب. هذا النقاش ليس منوطًا بالمفكرين والكتاب والصحافة والإعلام والرأى العام الفلسطينى والعربى فقط، بل مسؤولية حماس والسلطة الوطنية وبقية الفصائل بالدرجة الأولى.

صحيح أن الدماء مازالت ساخنة، والدمار هو العنوان الرئيس فى غزة، إلا أنه من المهم جعل مراجعة ما جرى أولوية، بل فرض عين.

أعتقد أن كثيرين لن يختلفوا على أن حركة النضال الفلسطينى تلقت ضربات ساحقة ومؤلمة خلال الخمسة عشر شهرًا الماضية. ابتعدت كثيرًا طموحات الحصول على الحقوق وإنهاء نظام الفصل العنصرى، وتلاشت آمال قيام الدولة الفلسطينية المستقلة. الحرب الدموية، الأطول منذ نكبة فلسطين ١٩٤٨، خلّفت حقائق جديدة على الأرض. تقريبًا انهار الأفق السياسى، ولم يعد الحديث عن المستقبل ممكنًا.

صحيح أن إسرائيل، قبل هجمات حماس، نجحت بمساعدة إدارة ترامب فى استبعاد القضية الفلسطينية من سُلّم أولويات المنطقة، وأنهت الحديث عن أى مفاوضات بشأنها، إلا أن هناك من اعتقد أن تلك مسألة مؤقتة قد تنتهى مع خروج نتنياهو من السلطة وتغيير الإدارة الأمريكية.

الحرب كرست استبعاد القضية الفلسطينية بعناصرها الأساسية، وفى مقدمتها الدولة المستقلة، وجعلتها أقرب إلى قضية إنسانية تتطلب إنقاذ الفلسطينيين من القتل والتدمير والتشريد بل الترحيل. ساهم فى ذلك الانقسام الفلسطينى الذى استغلته إسرائيل فى ارتكاب مزيد من الجرائم وتجاهل رد الفعل العالمى وحتى القضاء الدولى. الحرب العدوانية – التى كان من المفترض أن تؤدى لتقريب بل توحيد الرؤية والتحرك بين الفلسطينيين – فاقمت الانقسامات والاتهامات المتبادلة بين حماس والسلطة، فى وقت استهدفت إسرائيل الجميع، سواء بالقتل والتدمير والإبادة فى غزة، أو بالاقتحامات وسرقة الأراضى والممتلكات فى الضفة.

لكن التكلفة البشرية للحرب هى الأقسى والأكثر ألمًا وحزنًا. الإحصاءات عما خلفه العدوان مرعبة. ٤٦ ألف شهيد. منظمات إنسانية تقول إن الرقم الحقيقى تجاوز ٧٠ ألفًا. ١١٠ آلاف جريح، ربعهم إصابات دائمة. ٩ من كل ١٠ منازل تهدمت أو تضررت، للدرجة التى جعلت خبراء دوليين يتحدثون عن جريمة «قتل المنازل»، تمامًا مثل إبادة البشر. كان هناك ٥٦٤ مدرسة قبل الحرب، ٥٣٤ منها جرى تدميرها أو جعلها غير صالحة للتعليم. تلاميذ غزة (٦٦٠ ألفًا) لم يتلقوا تعليمًا رسميًا خلال عام كامل. ١.٩ مليون شخص، أى ٩٠٪ من أبناء القطاع، نزحوا مرات عديدة. مئات الآلاف يعيشون فى الخيام والملاجئ التى لم يتورع الاحتلال عن قصفها. النظام الصحى لم يعد موجودًا تقريبًا. الحرب خلفت ٤٠ مليون طن من حطام المبانى والمنازل. إزالة الألغام ستستغرق ١٠ سنوات.

هل فكر الذين خططوا ونفذوا الهجمات فى أن تلك ستكون النتيجة؟ وهل كان من الممكن التوقف عن بعض ممارسات جرت خلال الهجمات، استغلتها الدعاية الصهيونية وبررت بها الوحشية التى تعاملت بها مع الفلسطينيين؟. طريقة إدارة الحرب خلال الشهور الماضية، وكذلك المفاوضات تحتاج أيضًا إلى مراجعات. ليس هذا وقت إصدار الأحكام. التاريخ وما سيحدث مستقبلًا كفيلان بالحكم. حتى المنتصرون فى الحروب يُجرون مراجعات، فما بالنا بقطاع جرت تسويته عن بكرة أبيه وقضية فلسطينية عادت للوراء عشرات السنين. السلطة الفلسطينية أيضًا مطالبة بهذه المراجعات.. لماذا ركزت كثيرًا على الخلاف مع حماس وكيف تحولت الضفة إلى ساحة مستباحة للعدوان واغتصاب الأراضى دون أن تفعل شيئًا؟

المرحلة المقبلة مصيرية للقضية الفلسطينية.. تكون أو لا تكون. مطلوب وبشكل عاجل الاتفاق على استراتيجية للتحرير ووسائله ومتى يكون سلمًا أو نضالًا عسكريًا؟. أساليب الماضى والنكوص على اتفاقات توحيد الصف والاستفراد بالقرار وعدم إشراك المواطنين فى القرار، بداية من الانتخابات وحتى الموافقة على الاتفاقات، لم تعد تصلح.