المحاريق يكتب : الخطاب الأصعب في رحلة ربع قرن مع الملك

صنارة نيوز - 25/09/2024 - 12:06 am

كتب : سامح المحاريق

أتابع تصريحات وخطابات الملك عبد الله الثاني منذ توليه سلطاته الدستورية، وخاصةً تلك الموجهة للمجتمع الدولي وللعالم العربي. ومع ذلك، كنت كثيرًا ما أعتب على القراءات التي يكثر منها الزملاء في الوسط الإعلامي بعد التصريحات والخطابات الملكية. وكان رأيي يستند إلى نقطة مهمة أراها جوهرية، وتتمثل في ضرورة القراءة في التفاعلات السياسية للتصريحات. فالملك وفكره السياسي معروفان للأردنيين ولمن يتابعون خطابه على المستوى العربي والدولي، أما الذي يجب أن يكون موضوعًا للقراءة فهو نقاط التحول الرئيسية التي يمكن أن تدشن مرحلةً جديدةً أو تفتح أفقًا مغايرًا للرؤية. وكنت أتمنى أن ينشغل الزملاء، وخاصةً على المستوى المحلي، بتحليل الخطاب وعلاقته بالسياق والمشهد العام، لا أن يتحدثوا عن الخطاب وكأنهم يترجمون كلامًا واضحًا في الأساس، مع إضافة بعض العبارات من الإشادة والتعظيم التي أعرف أن الملك لا يطرب لها، ولا تستوقفه كثيرًا.

اتصل بي الدكتور خالد الشقران قبل بداية الخطاب الملكي في الجمعية العامة للأمم المتحدة، ليتأكد أنني سأستمع إليه مباشرةً، وكنت تحدثت معه صبيحة يوم الخطاب، وتوافقنا أن المحور الأساسي سيكون الأحداث الجارية في قطاع غزة والمستجدات الأخيرة هناك. وهذا ما كنت متأكدًا منه، لدرجة أنه كان يمكن أن أكتب قراءة كاملة في الخطاب قبل أن أسمعه أصلًا. فإذا كان يمكن أن نرصد مجموعة من التحولات في الرؤى الملكية على المستوى الاقتصادي والسياسي وأن نربطها بسياقاتها العامة ومسبباتها ومبرراتها، إلا أن الشأن الفلسطيني والعلاقات مع الجانب الإسرائيلي بقيت ضمن نفس الوتيرة على امتداد السنين، وبقي الإصرار على مصطلحاتها وخطوطها العريضة واضحًا في خطاب الملك، وفي أكثر من مناسبة. وكان هامش المناورة السياسية مفتوحًا ومطلوبًا أمام الملك، ولم تتغير هذه الوتيرة ولم تخرج عن ثوابتها.

استمعت إلى الخطاب وأنا منشغل بالبحث عن قناة تنقله باللغة الإنجليزية لأتخلص من صوت المترجم، ولم أوفق صراحةً، ولذلك كنت مشتتًا أثناء الاستماع. أما السبب في البحث عن قناة تبث الخطاب من غير ترجمة، فهو صوت الملك الذي كان مختلفًا ويدخل في فضاء مختلف يبتعد عن طريقته في الخطابة التي عرفتها خلال ربع قرن من الزمن. لم أوفق في مسعاي، وانتظرت النص المكتوب والذي تأخر بعض الشيء، وتفسير ذلك هو خروج الملك عن النص واستجابته لتفاعلات نفسية وعملية كانت تدور حوله وهو يلقي الخطاب. هذا تفسير وليس معلومةً على أية حال.

كنت أعتقد أنني أصبحت مستعدًا للنقاش حول الخطاب، حتى وجدت زوجتي تضع أمامي شاشة هاتفها المحمول التي تعرض فيديو قصيرًا، وكان التسجيل بلقطات قريبة لوجه الملك. ولذلك عدت إلى التسجيل مرةً أخرى، وبدأت أعاين لهجة لم أعهدها. فالملك الذي عرفه العالم بأناقته ودماثته في تصرفاته وأحاديثه، والقدرة على ضبط ملامحه وانفعالاته، يظهر للمرة الأولى ممتلئًا بالحنق والضجر من المجتمع الدولي.

ظهرت أربعة وجوه بملامح مختلفة أثناء خطاب الملك: الأول، ممثل دولة فلسطين؛ الثانية، ممثلة لبنان الشقيق في مجلس الأمن؛ الثالث، الوزير الصفدي؛ والرابع، الأمير هاشم بن عبد الله. وبين ملامح مؤكدة لممثل فلسطين استقبلت كلمات الملك، وبين شعور بالامتنان من ممثلة لبنان بأن قائدًا عربيًا يتحدث خارج الاستقطاب المتصاعد حول بلادها، كان واضحًا أن الأردن يندمج فعليًا في هذه المرحلة المعقدة من موقع المسؤولية والتقدير الصحيح للخيارات والاحتمالات، لا من موقع المراقبة السلبية أو المتهيبة للأحداث.

الوزير الصفدي ظهر مواطنًا أردنيًا، وتداخلت شخصيته الدبلوماسية في لحظات مع ذلك النبض الشعبي. لكنه كان مرتاحًا لأن الكلمات الملكية ستعطيه أدوات جديدة يطرحها في مناقشاته وجدالاته الماراثونية مع الدول الشريكة، وخاصة في القارة الأوروبية.

أما الأمير هاشم، فكانت ملامحه شبيهة بالشاب الذي انضاف إلى عمره عقدين من الزمن في لحظة واحدة، وبدا وكأنه يشاهد والده للمرة الأولى.

لنتجنب المزاودات، علينا أن ندرك أن جميع من ذهبوا إلى مدريد عام 1991 كانوا يريدون السلام والخروج من حالة استنزافية استمرت لعقود من الزمن، وأن هذه الحالة أنتجتها الغزوة العراقية غير المبررة على دولة الكويت الشقيقة صيف 1990، لتفقد الأمة العربية ما تبقى من تماسك، ويجهض أي مشروع للنوايا الحسنة بين الدول العربية إلى الأبد. وجاء مشروع السلام ضاغطًا على المملكة بعد التيقن أن التأسيس لظروف موضوعية من أجل القتال لم يعد ممكنًا ولا محتملًا. فالأردن كان الدولة التي وجدت في حالة الحرب والاستعداد للحرب دورها العربي الذي وضعها في مكانة متقدمة في المنظومة العربية، تتجاوز إمكانياتها المادية. ولذلك لم يكن السلام، على عكس ما يعتقد البعض، يلبي تطلعات أو طموحات الأردن، ولكن الحرب بغير ظهير لم تكن الخيار الأردني. فالملك الحسين ليس مجرد رجل يطويه التاريخ لنقول له ما له وعليه ما عليه ببساطة، بل هو الرجل الذي يحمل مسؤولية الملايين ويعرف أن عليه أن يضمن البيئة المناسبة ليعيشوا بأمن وبالحدود المقبولة للمعيشة الكريمة. وكان الحسين لذلك يدرك أن أخطاء التقدير وهفوات الحساب في بلد مثل الأردن مكلفةٌ للغاية، ويمكن أن تشكل انكشافًا مستقبليًا لا يحتمل على مستوى المنطقة ككل.

هذا الميراث كله كان حاضرًا في كلمة الملك أمام الأمم المتحدة، وبدا واضحًا أنه يود أن ينفض التاريخ عن أكتافه، وأن يواجه نتنياهو، الذي لا يراه الملك بكل ما يحمله من خلفية عسكرية سوى رجل خبيث ومرتزق، وجهًا لوجه ورجلًا لرجل، وهي المنازلة التي بطبيعة الأشياء ستكون للملك، ولكن الأمور في العالم الحديث لا تمضي بهذه الطريقة.

الفيديو الذي شاهدته على هاتف زوجتي ظهرت فيه ملامح الغيظ والحنق على وجه الملك من سلبية المجتمع الدولي ونفاقه. وربما اعترته رغبة في العودة إلى فروسية العصور الوسطى، وتجاوز اللحظة الصعبة التي يقف فيها ليطلب من العالم أن يبدي الحد الأدنى من الالتزام الأخلاقي تجاه ما يحدث في فلسطين ولبنان.

لم يفكر الأردن لحظة واحدة وهو يرسل طائرة الإغاثة الأولى إلى لبنان، وكأنه يقول: "لن نتركه وحده". ويبلغ العالم أن خلافاتنا حول ترتيب الأولويات والخيارات ليست خلافًا في الجوهري والأخلاقي، وأنه مهما يكن وسيكون، لن يختلط علينا الأمر بين الشقيق الذي نختلف معه، والعدو الذي يحاول تضليلنا بالتملق أو التخويف. وبنفس المنطق، ومهما تكن المسارات المقبلة والنتائج المحتملة، لن يفكر الأردنيون لحظة واحدة في الوقوف وراء الملك من أجل المحافظة على دولتهم وكيانهم واستقلالهم وكرامتهم، لأنهم في هذه المرحلة، وفي هذه القضية تحديدًا، يدركون أن أي تفسير لما هو واضح، أو تأويل لاستدعاء ما ليس مباشرًا في المنطوق ليعبر عن معنى يلائم الهوى، غباءٌ وكبر يورث الكفر، ولا يختلف في نتائجه عن الغدر أو الخيانة. 

ربما على الوزير الصفدي أن يعود إلى مجلس الوزراء ويوصل رسالة واحدة، بوصفه مواطنًا أردنيًا أصيلًا قبل أي شيء: "اعملوا ما بوسعكم في هذه اللحظة، وليكن قصارى الجهد هو المعدل الطبيعي المقبول، فأمامنا لحظات صعبة، وليس يعقل أن نشاغل الملك وهو في مواجهة مفتوحة مع احتمالات مربكة وخيارات مكلفة ببعض الصغائر أو المناكفات".

سامح المحاريق