وزيرة التهريج: حين تتحول السياسة الألمانية إلى كوميديا سوداء
صنارة نيوز - 07/09/2024 - 9:10 amوقفت وزيرة الخارجية الألمانية أنالينا بيربوك على المنصة إلى جوار الوزير الأردني أيمن الصفدي، وبينما اكان الصفدي يحاول تمرير إشارات حول العتب والإحباط من الموقف الألماني، وينتقي كلماته ضمن هوامش المناورة المتاحة، وقفت نظيرته الألمانية لتقدم فاصلا فكاهيا يليق بـ»الستاند آب كوميدي»، فكانت تصريحاتها نكتة طويلة وسخيفة في سياق مأساوي.
تأسست علاقة ذيلية بين السياسة الخارجية الألمانية والأمريكية، وصلت إلى توظيف بعض المؤسسات الألمانية مثل كونراد أديناور، لتصبح قناعا لبرامج وأنشطة المخابرات المركزية الأمريكية. وحاولت ألمانيا أن تحقق شيئا من الاستقلالية بعد الوحدة بين شطريها في مطلع التسعينيات، ولكن حدود الاستقلالية المنقوصة بقيت داخل فضاء الاتحاد الأوروبي، ومتعلقة إلى حد بعيد بالقضايا الأوروبية وليست العالمية.
حاولت ألمانيا أن تحقق شيئا من الاستقلالية بعد الوحدة بين شطريها في مطلع التسعينيات، ولكن حدود الاستقلالية المنقوصة بقيت متعلقة إلى حد بعيد بالقضايا الأوروبية وليست العالمية
أمام الارتجال المنضبط للوزير الصفدي، وهو مفهوم من خبرته الإعلامية ومعايشته المتواصلة مع الملف الفلسطيني في الأشهر الأخيرة، وقفت الوزيرة الألمانية لتلقي النكتة الكبرى، ولكن بصورة مخجلة لأي كوميديان مبتدئ؛ حيث احتاجت أن تنكب على نص مكتوب على ورقة، أو ربما من شاشة هاتف محمول، وأخذت توزع الاتهامات بالإرهاب على حركة حماس، بصورة منافية لأي رواية منطقية، أو متماسكة لما يجري منذ عقود طويلة من الزمن. في هذه اللحظة، ظهرت نقطة الضعف الرئيسية في شخصية الصفدي، وهي عدم قدرته على توظيف ملامح وجه محايدة، عندما لا يعجبه الحديث؛ لتبدأ ملامح الانقباض تتسلل إلى وجهه، وتظهر معالم التململ على حركة جسده التي يحاول أن يكبتها من خلال وقفة يتمسك خلالها بالمنصة الخشبية التي يقف وراءها. وأي مخرج تلفزيوني يمتلك حسا سياسيا سيجد الكثير من المعاناة؛ فاللقطة القريبة ستظهر معالم غير مستحبة على وجه الصفدي، والبعيدة ستظهر حالته التي ترغب في التفلت والخروج عن النص. لا يمكن الوقوف على مقاربة قانونية للسلوك الذي انتهجته حركة حماس في السنوات الأخيرة ليوصم بالإرهاب في تدبير مريح للعقلية الغربية، فالتعريفات الدولية تتطلب أن يوظف استهداف المدنيين لتحقيق أهداف سياسية تدفع دولةً أو منظمةً لاتخاذ قرار أو موقف معين. ومع ظهور التطرف الديني، استخدم الفعل الإرهابي لإجبار المجتمعات على اتخاذ نمط حياة يتسق مع المعتقدات والقناعات التي يحملها الإرهابيون. والسياقان الأساسيان لتعريف الإرهاب في الخطاب السياسي الحديث غير واردين في وضعية حماس وظروفها، خاصةً أن تغليب تيار الصقور داخل الحركة أتى بعد التحديات الضاغطة، التي تفاقمت بعد حصار غير إنساني أدى إلى التدهور الكامل في الوجود المادي والمعنوي داخل القطاع، بما كان يقود القطاع إلى لحظة انفجار ذات صفة انتحارية. النكتة السمجة الثانية التي تحدثت عنها الوزيرة تأتت في تبنيها لمقولة استعادة الثقة في المنطقة، وتعني بين العرب وإسرائيل! هكذا وبكل بساطة وسذاجة، و(استهبال) للذات، أو للجمهور الذي يتابع تصريحاتها. والحقيقة أن الجانب العربي قدّم أكثر من مبادرة لم تكن متخيلة قبل مبادرة السادات الساذجة في 1978، وكانت في كل مرة تواجه بالفشل في بناء الثقة. والأدهى من ذلك، ضرب الثقة بين العرب والفلسطينيين بصورة عميقة؛ فإسرائيل غير معنية بأن تبني أي حيز للثقة مع أي شريك عربي، ولو أضاء أصابعه العشرة شمعا لمصالحها. وما تركز عليه هو ضرب الثقة في المجموعة العربية.
قبل مبادرة السادات، لم يكن انتقاد الفلسطينيين أمرا يجرؤ عليه أي سياسي عربي، حتى لو شملت اللقاءات المغلقة، تأنيبا وتقريعا وتجنيا وتشكيكا، في الممثلين السياسيين للشعب الفلسطيني. وكان كثير من الدول الخليجية تقدم شيكا على بياض من غير أن تتدخل بالحد الأدنى من المتطلبات، التي كانت تفرضها دول أخرى. واليوم، يبدو أن إسرائيل حولت الفلسطينيين من طرف تعرض للاعتداء والعنف الممنهج والترهيب المادي والنفسي، إلى مجرد طرف مثل أي طرفٍ آخر، واعتبرت الفتات الذي حصل عليه الفلسطينيون أرضية لحالةٍ من الازدواجية في التعامل معهم، ومعاقبتهم وإدانتهم في أوقات كثيرة، ما يمكن قراءته هو تململات الوزير الأردني وحنقه البادي على ملامحه ولغة جسده، أما ما يدور في رأسه من أفكار فهو مستغلق، لأن أمورا كثيرةً تجري على الأرض، ومعلومات ونتفا من المعلومات تتراص في مواجهة الأردن في هذه المرحلة الحرجة. ولوهلة بدا وكأن الصفدي سيستدعي مشهدا من فيلم «معالي الوزير» يخبر فيه أحمد زكي مساعده الشخصي بأحد المواقف المخزية في طريقه للسلطة، ليسأل سؤال الفيلم نفسه، وهو يشير بيده إلى الوزيرة على المنصة المجاورة: «عمرك شفت سفالة أكتر من كده؟» تصر بيربوك على الاستراتيجية الغربية بأن تبدأ القصة من «ثانيا»، وهي الخديعة التي تنبه لها مريد البرغوثي، وربما هي التي تجعل الغرب يمتلك هذه الجرأة على الحقائق البسيطة، ويتحيز لإسرائيل بصورة فاجرة وفاضحة. ولكن في النهاية، ما الذي بوسع رجلٍ يدير العلاقات الدبلوماسية لبلد يعيش على حافة صعبة ومعقدة، أن يفعله مع ممثلة دولة تعتبر من أكثر الشركاء الاستراتيجيين تقديما للدعم الاقتصادي والتنموي لبلاده؟ إنه حتى لا يمتلك الفرصة لأن يضحك ملء شدقيه وهو يشاهد عرضا من الكوميديا السوداء على مرمى ناظريه.
القدس العربي : سامح المحاريق