حين يغدو الأمل خيانة!
صنارة نيوز - 24/04/2024 - 6:49 pm / الكاتب - د. موسى برهومةالصنارة نيوز-
عصف السابع من أكتوبر بكلّ شيء في عالمي الصغير، وبعثر وما زال الكثير مما ظننته راسخاً، وجعلني معلّقاً بين الشك المطلق والكُفر البواح. أمّا السعادة فغابت عن جدول الأعمال، وضاعت في متاهات العدم.
ولعل ثمة من يرى أنّ كاتب هذه الكلمات المظلمة موغلٌ في استبطان الألم، ومداعبة الشكوى والبكاء، أو أنّه وجد ذريعة كي يقف فوق منصّتها ويذرف أحزانه، ويعزف عن الدنيا و"مباهجها"، لكنّ هذه حال كثيرين فقدوا الأمان واليقين، منذ هدّم الطوفان الأوثان، وصدّع الأركان، وجعل الحياة والموت صنويْن لا يفترقان، لأنه ساوى بين الوجود والغياب، وهذه معضلة أخرى تجعل الكلمات تغرق أكثر وأكثر في ظلام العبث.
وإذا كان هناك مَن يحلو له أن يبيع الوهم، ويبشّر بأنهار العسل التي سيسفر عنها الطوفان، فهذا من حقّه، لكنّ من حقّ الحقيقة، التي هي في نظر الفلسفة "المعرفة الإنسانيّة التي لا يتوقف محتواها على إرادة الذات ورغبتها" أن تجهر بصوتها، وتغرس السكّين في الجرح حتى يشفى.
أتابع أخبار غزة، لا لكوني صحفيّاً وكاتباً، بل لأنّها جزء من كياني كإنسان حرّ. لكنّ هذا الإنسان صار، مع الوقت، يفقد الرغبة العارمة بالبكاء، لأنّ ما يأتي به كلُّ يوم أشدّ قهراً مما سبقه. صار الخبرُ الغزيّ عادياً (وهذه مصيبة كبرى، ومَنقصة أخلاقيّة فادحة). صار الموت جزءاً من العائلة. أضحت مشاهد الجثثت المقطوعة الرؤوس والمبقورة البطون واحدة من متطلّبات المحرقة الفلسطينيّة التي يضرم النارَ فيها أحفاد الهولوكوست.
باختصار: كفّ الشعور عن عمله الخلّاق، لا لأنّ الناس خونة وعديمو الإحساس، بل لأنّ الألم مديد وفتّاك، ولا يبدو أنّ ثمة ضفافاً له.
سأقول إنني مقهور؟ هذا وصف مخفّف ومهذّب. أنا أبعد من ذلك وأشدّ فظاعة، لكنني، كشأن الكثيرين مقيّد، والمصيبة أنّ القيد من صنع عقلي، لأنني فقدت الإيمان بكلّ شيء، ولست معنيّاً أن يقال إنّ هذه كتابة مثبّطة للهمم. يكفي أن تكون صادقة، بمعنى أن تكون متّسقة، لأنّ قولي إذا سألتي عن حالي: إنني لست بخير، يعبّر عن حقيقة ما أشعر به ويتلبّسني. لذا أنا منذ تلك اللحظة الطوفانيّة لست بخير، على المستوى الذاتيّ. ولا أرى، على المستوى الموضوعيّ، أنّ ثمة خيراً في الطريق.
ويتردّد في ذهني، وأنا أخطّ هذه العبارات الهاذية، أغنية فيروز:
"كان غير شكل الزيتون
كان غير شكل الصابون
وحتّى إنتَ يا حبيبي مش كاين هيك تكون
كان غير شكل الليمون كان غير شكل اليانسون
وكاين إنتَ يا حبيبي مش كاين هيك تكون
يا ضيعانُن راحوا.. شو ما صار لكن راحوا".
راحوا.. كلّ طعم بعد محرقة غزّة سيبقى عابقاً بالغبار ومذاق الجثث المتفحّمة.
كلّ أمل أو رجاء أو انتظار هو خيانة للعقل العاري من الاستعارات.
كلّ فنجان قهوة له رائحة الدم، وكلّ فرح عابر ومؤقّت، وكل إنجاز هو خطأ نحويّ في تهجئة عبارة.
غزّة وحيدة وستبقى.
غزّة عارية، وليس لها من اسمها نصيب سوى أنها تؤلم، وتُدمي، وتحفر في النفس ندماً لا يُمحى!