أعلان زين.. (الكويت) آخر قلاع العروبه

صنارة نيوز - 18/03/2024 - 9:53 pm

الصناره نيوز/ خاص

بقلم- سامح المحاريق

 

شاهدت جانباً من إعلان شركة زين (الكويتية) لرمضان الجاري، وسأحتفظ بمسافة كافية بعيداً عن مواقفي الشخصية، وأصفه بأنه إعلان محمل بالسياسة بصورة مفرطة، ومتحيز للفلسطينيين وقضيتهم بصورة كاملة، ويفترض بالشركات ذات الأعمال الدولية ألا تتوجه إلى هذه المساحة من التسييس، وعلى أقل أن تتحفظ في إبداء مواقفها إن كان ثمة ضرورة لذلك.

استدعيت في الأيام الماضية جانباً من علاقة الكويت بالمنطقة العربية، وكم أنا مدين للكويت، بصورة أو بأخرى، أدين للكويت بأمور كثيرة.

لم أزر الكويت في حياتي وعلى الرغم من أنني عرفت بعض الكويتيين أثناء دراستي الجامعية إلا أن الأمر لم يتطور إلى صداقة نظراً لأنهم كانوا يعيشون بقايا الصدمة في النصف الثاني من التسعينيات، الصدمة التي لم يكونوا على أية حال، وفي أي سيناريو مهما كان أن يعيشوها، وأعني يوم ٢ أغسطس المرعب وما أتبعه من تحولات، فلا مقدمات أخلاقية يمكن أن تبرره والكويتيون لا يستحقون في أي عالم أن يجربوه، وكان أن تراجعت حساسية الكويتيين للنقد الذاتي مع أنهم كانوا من أكثر الشعوب العربية ريادةً وأسبقيةً في ذلك، وأحببت أن أحتفظ بهامش طيب وحسب، وألا أطرح أياً من الأسئلة الصعبة، واكتفيت بأن أستمع لبعض الفضفضة التي تأتت لأنني كنت أنشط، بصورة نسبية، في النقاشات السياسية في الجامعة.

على الرغم من أنني لم أتقاطع مباشرة مع أي مشروع كويتي، فالعلاقة مع ذلك البلد بدأت قبل ولادتي، ووقتها تحصل والدي بعد إنتهاء دراسته على وظيفة في اليمن الجنوبي لتعليم الرياضيات، الوظيفة كانت ممولة من دولة الكويت، وكان والدي يحب أن ينتقل للكويت بعد أن ينهي إقامته في اليمن، فالجميع يذهب إلى الكويت، ولسبب أو لآخر، يترك أبي التدريس، ويلتحق بالعمل المصرفي في الأردن، ومنه ينتقل إلى الإمارات العربية، إلى مدينة العين التي شهدت بداية علاقتي مع الخليج العربي، العلاقة المعقدة التي تجعلني أحاول أن أتخذ مواقفاً متفهمة لسياسات دول الخليج، وربما ساعدني في ذلك، أنني كنت منشغلاً بتعريفات هويتي الشخصية في تلك المرحلة المبكرة من حياتي، ولم أنشغل سوى بالمتابعة الهادئة والفضول البريء حول أهل الإمارات.

كنت أقلب في الكتب المدرسية في الصفوف التأسيسية، واكتشفت أننا ندرس المناهج الكويتية في استمرار لعلاقة بدأت مع دعم الكويت لتأسيس التعليم النظامي في الإمارات في منتصف الخمسينيات، وما زلت إلى اليوم، أتذكر كتب التربية الإسلامية والرواية المعيارية التي حملتها المناهج الكويتية بكل ما تحمله من تسامح وانفتاح، وهذه تجربة أود أن أطلع عليها يوماً، هل كانت مقصودة، وهل أتت استجابة لظروف أو أخرى، أم أنها الرواية التي تعرضت للتشوه ولم تجد من يدافع عنها خاصة بعد التورط في المزيد من التسييس للإسلام بعد الضربة النهائية التي وجهت للقومية العربية بوصفها مشروعاً، وتلقتها للأسف الكويت.

الدين للكويت يمتد إلى مجلة العربي وسلسلة عالم المعرفة التي شكلت نواة أول مكتبة تخصني، ما زالت قيمة العدد من هذه السلسلة دولار أمريكي واحد، وهو أقل من تكلفة الطباعة والنقل، وتقريباً لا توجد معادلة قريبة من ارتفاع القيمة المعرفية مقابل تدني القيمة المادية إلا في إصدارات الهيئة العامة للكتاب في مصر في زمن سمير سرحان – رحمه الله -، وكانت تحقق هذه المعادلة داخل مصر وليس خارجها، وهو ما يجعل الكفة تميل للتجربة الكويتية التي انقطعت لبضعة أشهر قبل سنوات، ثم عاودت الكويت العمل على إصدارها بعد حوار مقتضب حول التكلفة والعائد، وبالمناسبة، لم يتحرك سعر العدد صعوداً بعد فترة التوقف. وإلى اليوم، لم تتمكن أي دولة عربية من استعادة نفس الوتيرة والزخم لتجربة النشر الثقافي الكويتية.

عندما اقتحم كارلوس مقر منظمة الأوبك في فيينا شتاء سنة 1975، عمل على تقسيم وزراء النفط إلى ثلاث مجموعات، أصدقاء وأعداء ومحايدين، ولكنه وقف حائراً أمام عبد المطلب الكاظمي الذي يروي أنه أجلسه في النهاية مع الأصدقاء، ولكن يوجد مشهد لم يلمحه الكاظمي، فحيث يفترض بكارلوس القادم من فنزويلا أن يعرف كل شيء، فالمتمم الدرامي لهذا المأزق يتمثل في همسة من أحد المشاركين الفلسطينيين في العملية، إنها الكويت، لا يمكن أن تكون من الأعداء، ذلك الفلسطيني في هذه التخريجة كانت للكويت علاقةُ أو أخرى تجعله يدرك أن الكويت لا يمكن أن تكون من الأعداء، وأن مكانها المناسب بين الأصدقاء.

عندما حدث الغزو على الكويت، وكنت في الثالثة عشر من عمري، اتخذت موقفاً متحمساً للكويت، ومع أن صدام حسين ظهر وكأنه قائد كاريزمي وتمكن من استغلال نسخته الخاصة من صلاح الدين الأيوبي، بعد أن استهلكها عبد الناصر، إلا أن تعاطفي مع الكويت أتى لسبب آخر، طفولي للغاية، وهو محبتي للثنائي عبد الحسين عبد الرضا وسعاد عبد الله، والاسكتشات الغنائية التي قدموها في الثمانينيات، بعد ذلك، بدأت في قراءة الفصول التاريخية المعقدة لأتخذ موقفاً مناسباً في النقاشات، سُرقت طفولتي دفعةً واحدةً بعد غزو الكويت، وفي الفترة بين 1991 و1995 كانت تتفاقم ورطتي مع القراءة في المذكرات السياسية والشهادات المختلفة، وأصبحت أشعر أنني سأكون مثل الذين يصنعون التواريخ في الغرف الجانبية، سأكون دبلوماسياً أو صحفياً كبيراً، واتخذت مجموعة من أغرب القرارات في حياتي، بعضها تحت وطأة القرارات العملية التي تبحث عن دخل مستقر، وأخرى، نتيجة ذلك التعلق بأنه يمكن أن أضيف شيئاً ما، أن أنغص أو أبحث عن تسوية، أي شيء يمكنه أن يدفع الناس للتفكير بعيداً عن الانفعالات.

هذه المرحلة جعلتني شخصاً يمكن، إلى حد ما، قبوله من الجميع، ولكنه يفتقد للعداوات بصورة مريعة، وما يحتاجه الناس أحياناً هو وجود عداوات منتقاة بعناية، فنحن في مجتمع ما زال يصدق في المقولة الكاذبة، عدو عدوي صديقي، وهي تعني إلغاء الذات والتمركز على هامش أي صراع، الترقب للنتائج التي لا نشترك في صناعتها، وتتناسب بطريقة كاملة، مع حالة انتظار البطل المفرد المظفر القادم من بعيد لينتشلنا من غفوتنا التاريخية.

كنت شيوعياً لفترة من حياتي، هذا ليس سراً، وكنت قومياً، وقبل ذلك سلفياً، هذه مسيرة التطور الفكري في الحياة التي أسلمتني للرغبة في تفهم الجميع، ولأقل أنني وجدت بين الشيوعيين والسلفيين شيئاً مشتركاً، متعلق بالحس الأخلاقي وقدرتهم على اتخاذ مواقف نبيلة، بينما لم أجد ذلك عند كثير من القوميين العرب وخاصة من أخذتهم لوثة بترول العرب لكل العرب، تلك المقولة الكسولة والترقيعية، فما الذي قدمته ما يمكن وصفه بالمراكز العربية لأهل الجزيرة في قرون من الزمن، ما الذي أسهموا فيه عندما كان الخليج يلتهم مئات السفن المحملة بالغواصين، أو كانت المجاعة تضرب إقليماً أو آخر، بعض التبرعات! إذن ليس عليهم أن يطلبوا سوى بعض التبرعات، وربما يكون الخليج كريماً نسبياً في ذلك، ولكنه لن يسمح مرة أخرى، بأن تعود هذه المقولة من جديد، لأن البترول سينتهي يوماً ما، والوقت ينفد وتوجد أجيال قادمة يجب العمل من أجلها، وإذا لم نفهم ذلك فعلينا أن نعترف بأننا لا نفهمه ببساطة، لا أن نبدأ في التنظير وتلقين الخليج بشكل عام ما الذي يتوجب عليهم أن يفعلوه!

وجدت الإشكالية بين جمال عبد الناصر والخليج مع حرب اليمن، وانتهت في لحظة صعبة ومعقدة من التاريخ العربي في مؤتمر الخرطوم بعد فترة وجيزة من نكسة حزيران 1967، وبدأت دول الخليج تقوم بدور جوهري في دعم مصر وسوريا والأردن، والسادات هو المسؤول عن الدخول في العلاقة الريعية السياسية مع الخليج وليس عبد الناصر، ولذلك تمكن الخليجيون من التفاهم مع عبد الناصر في النهاية، ولم يتمكنوا من التفاهم مع السادات الذي كان يريد أن ينتزع المركزية الكاملة، ليدعي أن المصريين هم أصل العرب، وأنهم يقومون بالدور الكبير لحماية العرب، ولكنه في النهاية استضاف شاه إيران المتغول على الخليج العربي والحليف الكبير لإسرائيل! كان السادات كاذباً أشراً، ويفتقد للحد الأدنى من شجاعة الاعتراف بالخطأ التي كانت لعبد الناصر، مع أن الناس لم يسمعوا الرجل في سنواته الثلاثة الصعبة الأخيرة، وفضلوا أن يستكملوا النغمة البوار مع صدام حسين بعد ذلك بسنوات.

لماذا هذه الاستطرادات؟ ببساطة، لأنه لا يمكن أن تفهم الكويت من غير أن تكون كويتياً، والأمر نفسه بالنسبة لدول الخليج العربي الأخرى، ولأنني ما زلت أرى أن التعبير القومي الأصدق بين كل التنظير المتراكم يتضاءل مع صرخة محمد هنيدي في فيلم همام في امستردام خائفاً من العصابة الهولندية: يا جدعان، ما حدش عربي هنا، سعودي كويتي، عراقي سوداني، أي ليبي يا جدعان!

الإعلان من الناحية الفنية متواضع وخطابي، ومن الناحية الإنسانية والقومية (الحقيقية) يستدعي الامتنان والاعتراف وإعلان الحب المتجرد من أي شيء.