السياسة النقدية وحدها لا تكفي في عالم أسعار الفائدة المنخفضة

صنارة نيوز - 2016-09-17 08:21:52

 البنوك المركزية، كما كتب محمد العريان، هي “اللعبة الوحيدة في المدينة”. إنها بالتأكيد اللاعب الرئيسي في لعبة تحقيق استقرار الاقتصاد الكلي، لذلك هل تعرف ماذا تفعل؟

يوجد خط واحد للهجوم ـ يحظى بشعبية بين الليبراليين ـ هو أن من العجرفة بالنسبة إلى البنوك المركزية محاولة تحقيق استقرار الاقتصاد الكلي. ينبغي إما إلغاؤها “البنوك” وإما إجبارها على اتّباع قاعدة ميكانيكية: معيار الذهب، مثلا. الدرس من التاريخ يبدو واضحاً تماماً: أي ديمقراطية لن تقبل أن يكون المال خارج السيطرة الهادفة. في الوقت الراهن والمستقبل المنظور، سنبقى في عالم من السياسة النقدية. لكن منذ الأزمة المالية أقدمت البنوك المركزية على أمور غير عادية لا تحظى بشعبية. في ظروف غير عادية، هذا كان أمراً لا مفر منه.

للأسف، الظروف غير العادية تبدو الآن عادية. أسباب – وتداعيات – هذا تأتي بوضوح من نقد قدمه لورنس سَمَرْز لخطاب جانيت ييلين، رئيسة الاحتياطي الفيدرالي، في ندوة جاكسون هول هذا العام. كتب “مواجهة الركود المقبل هي التحدّي الرئيسي الذي يواجه الاحتياطي الفيدرالي فيما يتعلق بالسياسة النقدية”. لكن الاحتياطي الفيدرالي، كما يخشى هو نفسه، في موقف ضعيف بشكل مُقلق للقيام بذلك.

الأعراض الأكثر أهمية لحالة الاقتصاد العالمي هي أسعار الفائدة طويلة الأمد الحقيقية والاسمية المنخفضة. لكن هذه تُمثّل استمرارا لاتجاهات على مدى 20 عاماً. كل من الانخفاض المستمر في أسعار الفائدة الحقيقية والتراجع في توقعات التضخم يكمُنان وراء هذه الاتجاهات. التوقعات التضخمية هي، إلى حد كبير، نتيجة السياسة النقدية. لكن السياسة النقدية لا يُمكنها تحديد أسعار الفائدة الحقيقية على المدى الطويل. في الواقع إجراءات السياسة النقدية قد لا يكون لها تأثير كبير في هذه حتى على المدى القصير. العوامل الحقيقية القوية تعمل.

جون وليامز، من “الاحتياطي الفيدرالي” في سان فرانسيسكو، أعلن أخيرا تقديرات أسعار الفائدة الطبيعية. يصف هذا بأنه أسعار الفائدة على المدى القصير المُعدلة وفقاً للتضخم التي “تُحقق توازن السياسة النقدية حتى لا تكون مُتكيّفة ولا انكماشية”. بحلول عام 2015 كانت هذه التقديرات قد انخفضت إلى 1.5 في المائة في المملكة المتحدة، وقريبة من الصفر في الولايات المتحدة، ودون الصفر في منطقة اليورو. ملاحظة: هذه هي المستويات التي يمكن أن يتوقعها المرء ليس في فترات الركود، لكن في الأوقات العادية.

مُحددات التراجع طويل الأمد في أسعار الفائدة الطبيعية “أو المحايدة” الحقيقية هي قوى تؤثر في العرض والطلب للأموال. هذه تضمن الشيخوخة، وتباطؤ نمو الإنتاجية، وانخفاض أسعار السلع الاستثمارية، والتخفيضات في الاستثمارات العامة، وارتفاع عدم المساواة، و”تُخمة المُدّخرات العالمية”، وتحوّل التفضيلات نحو الأصول الأقل مخاطرة. دراسة أجراها بنك إنجلترا وجدت أن مثل هذه العوامل يُمكن أن تُفسّر كثيرا من الانخفاض البالغ 4.5 نقطة مئوية في أسعار الفائدة الحقيقية المحايدة منذ أوائل الثمانينيات.

كل من التراجع الحاد في تقديرات أسعار الفائدة الحقيقية الطبيعية وتحليل ما يكمُن وراءها لهما آثار كبيرة. الأكثر أهمية هو أنه من الصعب رؤية ما يُمكن أن يعكس الاتجاهات على المدى القريب. من المحتمل أننا سنعيش مع أسعار فائدة منخفضة للغاية لفترة طويلة. هذا يعني أن التعامل مع الركود التالي بالطريقة العادية سيكون صعبا تماماً.

لنفترض أن أسعار الفائدة الاسمية على المدى القصير كانت أعلى قليلاً من المعدل الطبيعي عشية الركود المُقبل. في الولايات المتحدة قد تكون 3 في المائة. وفي منطقة اليورو قد تكون أقل كثيرا. لكن كما يُظهر خطاب ييلين، في جميع فترات الركود في الولايات المتحدة منذ أواخر الستينيات انخفضت أسعار الفائدة على المدى القصير ما لا يقل عن خمس نقاط مئوية. هذا قد يبدو أنه يعني تحوّلا إلى أسعار الفائدة السلبية للغاية. الاحتياطي الفيدرالي متأكد من أن مجموعة الأدوات التي يملكها ستنجح في مثل هذه الظروف. لكن كما يذكر سَمَرْز، هناك سبب وجيه للتشكيك فيما إذا كان هذا سيكون هو الحال: فعالية برامج شراء الأصول على نطاق واسع قابلة للنقاش “ويُمكن القول إن الآثار الجانبية على أسواق الأصول ضارة”، في حين إن الجدوى السياسية والمؤسسية لأسعار الفائدة السلبية بقوة هي أيضاً أمر مشكوك فيه.

لهذه الأسباب، يُجادل وليامز، يُفترض أن “السياسة المالية لمواجهة التقلبات الدورية ينبغي أن تكون ما يُعادل المُستجيب الأول لفترات الركود”. في الواقع، جعل ذلك ممكناً قد يبدو أنه أولوية من الدرجة الأولى بالنسبة إلى صنّاع السياسة. أيضا من الأمور ذات الصلة التي تأتي فورا إلى الذهن، أشكال السياسة النقدية التي هي مُكمّلة للسياسة المالية العامة أو حتى بديلة عنها. “توزيع الأموال” – دعم مباشر للإنفاق – يأتي على الفور إلى الذهن. ومن الممكن أيضاً رفع أهداف التضخم أو مستويات الأسعار المُستهدفة، بدلاً من ذلك. وقبل كل شيء، يجب أن نفترض أن كل شيء يجب أن يجري بشكل جيد. ومن الضروري إعداد مجموعة الأدوات المستقبلية الآن. فقد تكون هناك حاجة إليها قريباً جداً.

ثمة نقطتان أخريان أيضا. الأولى تتعلّق بما يجب فعله الآن. افترضتُ آنفا أن أسعار الفائدة سترتفع بشكل كبير قبل فترة الركود المُقبلة. لكن هذا من المرجح أن يحدث إذا سُمح للاقتصاد بأن يكتسب قدرا كبيرا من الزخم. الارتفاعات المُبكرة في أسعار الفائدة قد تؤدي إلى تباطؤ أكثر حدّة مما يتوقعه الناس، يضع البنوك المركزية في أسوأ وضع ممكن: معالجة الركود عندما تبقى أسعار الفائدة منخفضة للغاية. لهذا السبب، كما تجادل لايل برينارد مُحافظة الاحتياطي الفيدرالي، “التكاليف التي يتحمّلها الاقتصاد من قوة أكبر من المتوقع في الطلب من المرجح أن تكون أقل من تكاليف الضعف الكبير غير المتوقع”. السياسة الأكثر خطورة هي تشديد السياسة في وقت قريب قبل الأوان، وليس في وقت متأخر بعد فوات الأوان.

النقطة الثانية هي أن الهدف المُهيمن للسياسة النقدية ينبغي الآن أن يكون معالجة أسباب الانخفاض البالغ في أسعار الفائدة الطبيعية. مطابقة العجز الأكبر في المالية العامة مع استثمارات عامة أكبر سيكون أمرا مُباركا بشكل مُضاعف. هذا لن يؤدي فقط إلى جعل وظيفة السلطات النقدية أسهل، بل سيؤدي أيضاً إلى زيادة النمو الاقتصادي المحتمل، إذا تم بشكل جيد. الرأي السائد هو أن الاستثمار العام يجب أن يكون دائماً مُسرفاً، لكن هذا أمر متشائم للغاية. تاريخياً، غالباً ما كان الاستثمار العام بمثابة حافز للاستثمار الخاص. أسعار الفائدة الحقيقية المنخفضة بشكل كبير اليوم تعني أن دفعة كبيرة للاستثمار العام لم تكُن ملائمة أكثر من الآن. البنوك المركزية يجب ألا تبقى اللعبة الوحيدة في المدينة.

 

الافتصادية

فايننشال تايمز