أطباء فوق القانون!
صنارة نيوز - 2016-05-02 12:05:08فريهان سطعان الحسن
بشديد حيادية في الملامح، وكمن تستجوبني، سألت: “ما اسمك؟... ما المؤسسة التي تعملين فيها؟... أين تسكنين؟”. فأجبتها، والحيرة تراودني من أسلوبها. لكنها حيرة ستزداد، حين عادت السيدة بعد مرور دقائق قليلة فقط لتكرر الأسئلة ذاتها؛ مرة ثانية وثالثة!
وسواء أدركت حيرتني واستغرابي أم لا، من حقيقة ما بدا عليها من حزن ويأس يغشيان كل حياتها؛ فقد سارعت سائلتي التي التقيها للمرة الأولى في بيت صديقة تربطها بها صلة قرابة، إلى التوضيح: “إن كنتُ طرحت عليكِ أسئلة متشابهة، فاعذريني. إذ عندما أزيح وجهي عنك أنساك مباشرة وتماما، كأنني لم أرك قبل ذلك أبدا”!
صُدمت! ولم أستوعب ما قالته لي، حتى استرسلت في الحديث عن رحلة مرضها، وأكملت صديقتي تفاصيل القصة المؤلمة.
كان ذلك قبل 14 عاما، حينما ذهبت هذه السيدة إلى المستشفى لتلد ابنتها الثانية. لكن ما بدأ بحالة فرح، سرعان ما تحول إلى فاجعة ستقلب حياتها إلى الأبد.
ذلك أن الطبيب المسؤول عنها ارتكب بحقها خطأ طبيا فادحا، حينما حقنها بجرعة زائدة من التخدير، فأدخلها في حالة غيبوبة استمرت لأكثر من شهرين. ولم يكن الاستيقاظ منها إلا مقابل عطب دائم في دماغها؛ ذاكرة مؤقتة قصيرة تفقدها خلال لحظات، وفيما الراسخ يعود إلى ما قبل 14 عاما! وهو ما يعني أنها تذكر ابنتها الأولى، فيما تنسى الثانية.
ومع مرور السنين، لم تزدد حالتها إلا سوءا. فشحنات زائدة من الكهرباء سببت لها مرض “الصرع”. وأصبحت تتناول أكثر من 40 حبة دواء في اليوم الواحد.
تلك السيدة المتفوقة علميا، والتي كانت تعمل مديرة مشروع متميزة في إحدى الشركات الأجنبية بالأردن، فقدت بلمح البصر كل شيء. فعدا عن عملها، تخلى عنها زوجها لأنه لم يحتمل ما أصابها، تاركا إياها تصارع وحدها ما حل بها من دون ذنب ارتكبته.
قالت لي: “في كل يوم أقرأ ما أدونه في دفتري؛ عمر ابنتيّ الاثنتين، وصفوفهما، وعنوان مدرستهما، وحتى عنوان البيت.. وكل الأشياء الأخرى أقوم بتدوينها باستمرار كي أتذكر بعضا من مجريات حياتي”!
السيدة التي رفضت الاستسلام لواقعها، تعمل حالياً في شركة خاصة راعت ظرفها، بأن عينت معها موظفة أخرى تساعدها، وتراجع ما تنجزه من أعمال.
وهي مع صباح كل اليوم، تجلس بسيارتها، تقرأ من دفترها عنوان عملها حتى تصل إليه، وما المطلوب أن تقوم به في مكتبها، فحتى مجريات اليوم السابق لا تذكر منها شيئا.
عدة قضايا رفعتها هذه السيدة، بمساعدة عائلتها، بحق ذلك الطبيب، كما المستشفى التي أجرت فيها تلك العملية. لكنها، وبما يبدو غير قابل للتصديق، لم تستطع أن تثبت “الجريمة” التي ارتكبها بحقها! ولتكون ضحية من بين آلاف الضحايا الآخرين لأخطاء طبية وقعت بالمجان، ونتج عنها موت أو إعاقة أو تشوه، ومعاناة على امتداد العمر للمرضى المنكوبين بإعاقات أخرى، ومن حولهم!
هذا فيما الجناة من الأطباء المستهترين أو غير المؤهلين ينجون غالباً، إن لم يكن دائماً، بفعلتهم، بيسر وسهولة في كثير من الحالات، وينامون ملء جفونهم، دونما خوف حتى من ارتكب خطيئة طبية أخرى قاتلة. فكم من شكاوى المرضى المقدمة لنقابة الأطباء، أنصفت مريضاً؟!
أخيرا، وافق مجلس الوزراء الأسبوع الماضي على مشروع قانون المسؤولية الطبية والصحية لسنة 2016، والذي يأتي لتوفير الحماية القانونية للمرضى في حال حدوث خطأ طبي؛ وذلك بتنظيم آلية للنظر في الشكاوى المقدمة بحق مقدمي الخدمة بوساطة لجنة فنية مشكلة لهذه الغاية.
والأمل في أن يؤدي هذا القانون، إن تم إقراره بشكل نهائي، إلى إنصاف المريض وإعطائه حقه، إزاء أي إهمال أو تقصير طبيين.
في نهاية اللقاء، لخصت تلك السيدة كل المأساة بقولها لي: “فرصة سعيدة أنني التقيتك.. وإن شاءت الظروف أن نلتقي ثانية، فستكون المرة الأولى أيضا. فأسأل عن اسمك لأنني لن أتذكره حتما، تماما كما لن أتذكر ملامحك، لأن طبيبا دمر حياتي، دمر ذاكرتي، دمر حاضري ومستقبلي وعائلتي، وكل تفاصيلي.. وتابع حياته بلا ضمير يؤنبه”!