ذكرت تقارير صحافية عالمية أنه في جزيرة «هوكايدو» اليابانية النائية في أقصى شمال البلاد، قررت محطة  «كامي شيراتاكي» للقطارات توقيف الخدمة في هذه الجزيرة تماماً لقلة الركاب وندرة السكّان فيها، الاّ أنها تراجعت عن قرارها بعدما عرفت ان طالبة واحدة في المرحلة الثانوية تستخدم القطار في هذه الجزيرة، وأبقت القطار في الخدمة من أجل طالبة وحيدة حيث يمر بباب بيتها صباحاً ليوصلها الى المدرسة ويعود مساء ليحضرها من المدرسة..وأصرّت محطة القطارات ان يبقى هذا القطار في خدمة الراكبة  الوحيدة حتى تنهي مرحلتها الثانوية والمتوقع في شهر آذار المقبل  بعدها سيخرج القطار من خدمة الجزيرة تماماً بعد أن يكون قد أوفي ما عليه من التزام انساني تجاه مستخدمه الأخير..
إلى المبهورين باليابان ويتكلمّون عن أهمية الإنسان عندهم..الأمر لا يختلف كثيراً عندنا، كيف؟..أنا أيضاَ كان ينتظرني  باص محمد القاسم ويبقى يلف في الحارة إذا ما رآني ارتدي جواربي على البلكونة...وفي طريق العودة، سواء أكان  «محمد القاسم» أو   « عبده شوطح» ومهما كانت حمولتهما الزائدة كان لا يهون عليهما تركي في مجمع اربد وحيداً، «فيدحشونني» على الواقف،  وما بين الغيار الأول والغيار الثاني للسرعة  وكلمة «روووح» التي كان يطلقها الكنترول «طُقّيعة» كنت أستقر بكتبي ودفاتري وأقلامي بحضن إحدى العجائز العائدات بمهمة رسمية من «دير يوسف» فتنهال عليّ عبارات تلطيف الجو من اثر السقوط: ..»الله معك ..الله معك»  «معليشي معليشي»..»مثل ابني يا خالة»..»زي أمك»..»توازن جاي» ..فأحاول استعادة توازني النفسي وأنا ارتب بلوزتي وتنكيت الغبار عن ركبتي بعد كبوة الجواد الرقيق فأمسّي بالخير على الحضور جميعاً مع ابتسامة لطيفة ...
الغريب أن سقوطي  غالباً ما كان ينتهي بحضن عجوز وهذا دليل على «رضا الوالدين»..فهامش الحرج قليل جداً مقارنة لو سقطت في حضن سيدة يافعة او عامل وافد لا سمح الله...وبسبب الثقافة المشتركة والعلاقات الثنائية كانت تجري حوارات جانبية بيني وبين العجائز العائدات من اربد ما بعد الغروب ..فيكون الحديث مرة عن الأزمة الموجودة «عند تبع العيون» المقصود بطبيب العيون، ونعرّج في معرض حديثنا على خطورة «المي البيضا والمي الزرقا» على النظر ..ومرات كنا نتجاوز  الخطوط الحمراء ونتكلّم عن طبيب جيد «يداوي للحبل» فلديها كنّة لم تحمل منذ 11 شهراً ، ثم تشكو لي حظها بالكناين بشكل عام فكنّتها الثانية معها وحيد ع خمس بنات..وبقدرة قادر وبدون مقدمات  تسألني: «بتعرفش حدا عنده زغاليل يا خالة»؟؟..»بنت شريفة جابت والله بعدني ما رحت عليها»!!..فأحاول استحضار كل باعة الزغاليل الذين أعرفهم في حياتي حتى أساعد ولو قليلاً بالتفكير بدل جلوسنا المزدوج في الكرسي المفرد..
أكثر ما كان يضايقني في ركوب الباصات، ليس السقوط الحرّ في أحضان العجائز على الإطلاق، بل الكنترول «طقّيعة» الذي  كان له نظرة براجماتية نحو زملائي  الركاب، فقد كان  يستخدم كلمة «بريزة» كناية عن الراكب.. فيقول لمحمد القاسم «هات هالبريزة» عندما يرى راكباً على قارعة الطريق، و»نزّل هالبريزة» عندما يطرق  احدهم بأصابعه على النافذة راغباً في النزول..فكل الركاب عبارة عن «برايز» تمشي على الأرض ..وبما ان ركاب الباص كانوا 22 راكباً فالقيمة المادية التي يساويها كل هؤلاء رجالاً ونساء، طلاباً وموظفين بنظر «طقّيعه» بالكاد يساوون «ليرتين وعشرين قرش»..ولا أخفيكم أنني كنت أكن حقداً دفيناً على الأخ «طقّعية «اخو هالشلن» بسبب نظرته الدونية لي طيلة السنوات الأربع الدراسية، لكن بعد ان كبرت ووعيت على الدنيا  وفهمت السياسة أكثر غفرت لـ»طقيعة» زلاّته ونظرته المادية للركاب، ببساطة لأنني  اكتشتفت انه ليس الوحيد الذي ينظر الينا  نظرة مادية مصلحية قابلة «للفرط» ، فالحكومات هي الأخرى تنظر إلى المواطنين على أنهم مجرّد «برايز كبيرة» تتدحرج على الأرض.. 
انتبهوا للمعادلة :
في اليابان المواطن= وطن..
في بلادنا  المواطن= فراطة..
لو عملنا مقاصة بين المعادلة  اليابانية  والعربية ..لاكتشفنا ان الشعوب في الواقع هي عبارة عن «فراطة وطن»...!!
ومن يمتلك «فراطة» الوطن ..يمتلك «صمادة» البقاء...