ينظر إلى الأعوام الثلاثة التي خلفها وراءه، فيعلم أنه لم يعد ذلك الفتى الغر، بل نضج بعد أن اختبر تجارب لم تكن في الحسبان، فيبتسم برضا، ويشكر القدر الذي ساق إليه الظروف لكي يكون جزءا من نجاح كبير من المحتمل أن يتطور لكي يراقبه العالم كله.
هو "الذيب"، برغم ملامحه الطفولية التي حفرت في ذاكرة كل من شاهده وهو يمتطي الجمل وحيدا خائفا في رحلة ملحمية جعلت منه رجلا قبل الأوان، وأوصلته وفريق عمل الفيلم إلى المنافسة على جائزة أوسكار أفضل فيلم أجنبي.
جاسر عيد؛ الذي يبلغ اليوم 15 عاما، بطل فيلم المخرج الأردني ناجي أبو نوار، وفي أول ظهور له أمام الكاميرا، يصل إلى بوابة العالمية، من خلال جولة طويلة جاب فيها بلدانا عديدة، ليقدم جزءا من حياته وتاريخه.
استحق الطفل جاسر عيد أن يكون نجما بامتياز في فيلم "ذيب"، بل إنه كان بطلا أساسيا أعطى للعمل رونقا وخصوصية بأسلوبه ولغته وملامحه الصحراوية البدوية وبساطته، ورجولته أيضا، كل ذلك جعل من الشخصية التي يؤديها تتعدى سنها الزمني، إلى سن افتراضية أكثر نضوجا.
ابن قرية الشاكرية بلواء البتراء في الجنوب الأردني، ضاهى النجوم الكبار براعة، وهو يجسد على طبيعته، ومن غير تكلف، ملحمة صحراوية، يعكس من خلالها ثقافة منطقته.
يقول جاسر، إنه لا توجد كلمات يمكن أن تصف تجربته في ذلك العمل، فهي تجربة ثرية أنضجته، وفرصة قدمته إلى عالم واسع يختلف عن عالمه المحدود الذي عاش فيه طوال حياته.
ويبين أن اشتراكه بالفيلم كان بمثابة تذكرة السفر التي جعلته يجوب دولا لم يكن يعلم أنها موجودة في الأصل، وجعلت منه مشهورا
من خلال ورش العمل التي خضع لها جاسر، تعلم الوقوف أمام الكاميرا وكيف يتصرف متجاهلا تواجدها، وفي الوقت نفسه، تعلم كيف يتحكم بمشاعره وكيف يعبر بجسده من دون أن يتكلم.
جاسر الذي يهدي إنجازه في هذا الفيلم إلى جلالة الملك عبدالله الثاني، ويفتخر بكونه جزءا من عمل رسم البسمة على شفاه الأردنيين جميعهم، يعتبر بلوغ نهائيات الأوسكار بالنسبة إليه "أمرا مذهلا"، ومفاجأة لا يمكن للكلمات أن تعبر عنها، فهي تعني الكثير بالنسبة لطاقم الفريق، على حد قوله، خصوصا المخرج ناجي أبو نوار.
في الفيلم، يخوض جاسر رحلة التحول من طفل بملامحه البريئة، إلى رجل بعد أن فجع بفقدان أخيه غدرا، ليخوض رحلة الركوب إلى جانب القاتل في صحراء وادي رم القاحلة، بمواجهة الحر والموت، والانتقام هو دافعه للبقاء على قيد الحياة كي يأخذ حق أخيه ويعود إلى قبيلته رجلا.
التجربة بمجملها كانت أمرا جديدا على الطفل، فهي ترتبط بتقديم نمط حياة عاشه أجداده في الخلاء وبيوت الشعر، فيما حياتهم اليوم انتقلت للحداثة والبيوت الحجرية.
يقول إن الصحراء في "ذيب" كانت عنصرا مذهلا لكل من شاهد الفيلم من قريته. ويضيف "الجميع كان مذهولا بالنتيجة النهائية للعمل. لقد قدموا فنا يخطف الأبصار".
لكن حياة جاسر لم تتأثر بين أقرانه، فهو ما يزال على مقاعد الدراسة في الصف العاشر، وحين تم إنجاز الفيلم كان في الصف السابع، وبين هذه الأعوام لم يتغير فيه سوى الخبرة التي اكتسبها خلال تجواله في العالم.
يعترف بأنه أحب أبوظبي أكثر من غيرها من مدن العالم الأخرى التي زارها. ويضيف "مشاركتنا في مهرجان أبوظبي السينمائي كانت الأفضل بالنسبة إلي"، ويعزو ذلك إلى تشابه المدينة مع بيئته وتفاعل الجمهور الذي حياهم مدة طويلة، إضافة إلى العروض المتواصلة لجمهور عربي يعرف لهجتهم.
فيلم "ذيب" حظي في الدورة الأخيرة لمهرجان أبو ظبي السينمائي بجائزة فيبريسكي لأفضل فيلم روائي، ونال في مسابقة "آفاق جديدة" جائزة أفضل فيلم من العالم العربي، بعد نيله تزكية خاصة من قبل مهرجان لندن السينمائي الدولي وجائزة أفضل مخرج في مسابقة اوريزونتي (آفاق جديدة).
وعن الجمهور، يبين أن "أول عرض للفيلم كان لا ينسى"، لافتا إلى أن الاستقبال بحفاوة والتصفيق الطويل من جمهور لا يجيد العربية كان أمرا لا تصفه الكلمات، وهو ما خفف من الشعور بالخوف والقلق الذي صاحب كل فريق الفيلم، لكنه يؤكد أنه ومع تكرار الجولات في لندن والقاهرة والدوحة، اعتاد الأمر.
يعترف بأنه وقع في غرام مهنة التمثيل، وأنه لن يرفض أي عرض لائق، لكنه لم يتلقَ أيا منها حتى هذه اللحظة. لكنه يبين برضا وقبول أن الأمر إن لم يتكرر، فإنه لن يحزن كثيرا، فيكفيه أنه خاض تجربة لا يمكن نسيانها، وهي تجربة صنعت تاريخا وفنا وفوزا أسعد الجميع.
تدور أحداث الفيلم في وادي رم، ويبرز سحر الصحراء الأردنية، ليأتي "ذيب" لينقش نضوجه في رحلة ملحمية بين صراع البقاء وترجمة دروس الحياة بالفطرة، ويلتقط العلاقة بين المكان والأفراد والقدرة على التكيف في حقبة تعود إلى ما قبل الحرب العالمية الأولى والثورة العربية الكبرى في 1916 وإنشاء الخط الحجازي الحديدي والتغيرات التي طالت تلك المنطقة.
ويحمل العمل لهجة أبطاله، وهم من البدو بلهجتهم الخاصة التي ترجمت إلى العربية الفصيحة على الشاشة، نظرا لخصوصيتها وصعوبة فهمها.
ويبرز الفيلم رحلة سحرية لا تخلو من المعاناة بتعابير يحملها ذيب في وجهه استطاعت أن تقول كل شيء: ألمه ولهفته وقوته التي اكتسبها من محيطه ومن شقيقه حسين، ليوظف كل ذلك في التشبث بالبقاء على قيد الحياة بعد تعرض حسين للقتل بالقرب من البئر.
طاقم الفيلم يضم في الإنتاج ناصر قلعجي وليث المجالي، أما أبطال الفيلم فهم؛ جاسر عيد، حسن مطلق، حسين سلامة، مرجي عودة، جاك فوكس، فيما كتب السيناريو ناجي أبو نوار وباسل غندور، ومونتاج روبرت لويد، تسجيل الصوت فلاح حنون، تصميم الصوت داريو سويد، الموسيقى جيري لاين، تصميم الديكور أنا لافيل، تصميم الملابس جميلة علاء الدين، الشعر والمكياج سليمان تادرس، مساعد المنتج ينال قصاي عيد الصوالحين ومعن عودة.
ونال الفيلم دعما مهما بأشكال عدة من صندوق الملك عبدالله الثاني للتنمية، إلى جانب الدعم الذي ناله من "صندوق سند" في أبو ظبي، و"مؤسسة الدوحة للأفلام"، وصندوق "فيجونز سود إيست" السويسري، والشركاء المحليين من مياه الترا وJHRC وزين وأرامكس ولومينوس ميديا وMAC. والهيئة الملكية للأفلام.
ومن أبرز الجوائز والمشاركات لفيلم ذيب حول العالم، جائزة أفضل مخرج لناجي أبو نوار ضمن مسابقة آفاق جديدة بعد العرض العالمي الأول في مهرجان فينيسيا السينمائي الدولي. كما سمي ناجي أبو نوَّار أفضل صانع أفلام عربي في العام 2014 وفقاً لمجلة فارايتي، وحصد تنويها خاصا في مهرجان لندن السينمائي التابع لمعهد السينما البريطاني.
وحصل ذيب على جائزة أفضل فيلم من العالم العربي في مسابقة آفاق جديدة وجائزة فيبريسكي لأفضل فيلم روائي في العرض الأول في العالم العربي للفيلم بمهرجان أبوظبي السينمائي الدولي.
ومنح شهادة تقدير خاصة في مسابقة آفاق السينما العربية ضمن مهرجان القاهرة السينمائي الدولي في عرضه الأول بأفريقيا، إضافة إلى نيله تنويها خاصا من لجنة تحكيم الشباب لجاسر عيد في مهرجان أيام قرطاج السينمائية. وحقق جائزة أفضل عمل إخراجي أول من المهرجان السينمائي الدولي لفن التصوير السينمائي (كاميريميج) في بولندا.
وكان من نصيبه أيضا الجائزة الأولى وجائزة أفضل سيناريو في مهرجان بلغراد السينمائي الدولي، وجائزة أفضل سيناريو في مهرجان ميامي السينمائي الدولي، وجائزة الجمهور في مهرجان لاس بالمس السينمائي الدولي، وجائزة أفضل عمل إخراجي أول في مهرجان بكين السينمائي الدولي، فضلا عن جائزة أفضل فيلم روائي في مهرجان مالمو للسينما ومهرجان تورنتو السينمائي الدولي، والعرض الآسيوي الأول في مهرجان مومباي السينمائي.