أزمة دبلوماسية متدحرجة: كيف غيّرت البرازيل قواعد اللعبة مع إسرائيل
صنارة نيوز - 05/09/2025 - 10:59 am / الكاتب - د . راسم بشارات
د. راسم بشارات
الجذور السياسية للأزمة
يمكن تتبّع جذور الأزمة الراهنة بين البرازيل وإسرائيل عبر العودة إلى الأسس الفكرية والمؤسساتية التي أرساها الرئيس لويس إيناسيو لولا دا سيلفا ووزير خارجيته الأسبق سيلسو أموريم خلال ولايته الأولى (2003–2010). فقد سعت البرازيل في تلك المرحلة إلى صياغة سياسة خارجية مستقلة عن الاستقطاب التقليدي بين الغرب والشرق، تقوم على أربعة مرتكزات أساسية:
- الاستقلالية في اتخاذ القرار السياسي بعيدًا عن الضغوط الخارجية.
- تعزيز نظام عالمي متعدد الأقطاب يحدّ من هيمنة القوى الكبرى.
- الدفاع عن القانون الدولي باعتباره الضامن الأساسي لتوازن العلاقات الدولية.
- جعل حقوق الإنسان في صميم التوجهات الدبلوماسية البرازيلية، وفق ما نصّ عليه دستور 1988.
هذه المبادئ مكّنت البرازيل من ترسيخ صورتها كقوة صاعدة في الجنوب العالمي، تسعى إلى لعب دور الوسيط بين الشمال والجنوب، وفي الوقت ذاته كصوت داعم للقضايا التحررية العادلة وعلى رأسها القضية الفلسطينية. وقد تجلى ذلك في الاعتراف بالدولة الفلسطينية وعاصمتها القدس الشرقية عام 2010، ودعم مشاريع القرارات الأممية المناهضة للاحتلال والاستيطان.
ومع عودة الرئيس لولا إلى السلطة عام 2023، أُعيد تفعيل هذه المرتكزات بقوة أكبر، في سياق دولي يشهد تصاعدًا للتوترات الجيوسياسية وتراجعًا للثقة في المؤسسات متعددة الأطراف. وقد كانت الحرب على غزة، التي اندلعت في أكتوبر 2023، ساحة مناسبة لتجسيد هذه المبادئ عمليًا. لكن هذا التموضع اصطدم مباشرة بالسردية الإسرائيلية، التي تصوّر عملياتها العسكرية باعتبارها دفاعًا مشروعًا عن النفس، بينما قدّم لولا خطابًا مناقضًا يصفها بانتهاكات جسيمة للقانون الدولي وبأنها شكل من أشكال الإبادة الجماعية. وهكذا لم تكن الأزمة الراهنة نتاج تصريحات ظرفية، بل نتيجة تراكم بنيوي يعكس التناقض بين طموح البرازيل لقيادة جنوب عالمي قائم على العدالة وحقوق الإنسان، وبين إصرار إسرائيل على حماية شرعيتها الدولية عبر أدوات القوة الصلبة والدعم الغربي.
بداية الأزمة: غزة في قلب المواجهة
شكّل اندلاع الحرب الإسرائيلية على غزة في أكتوبر 2023 نقطة اختبار حاسمة للسياسة الخارجية البرازيلية. ففي 25 أكتوبر 2023، وصف الرئيس لولا العمليات العسكرية الإسرائيلية بأنها إبادة جماعية، وهو توصيف ينطوي على ثقل قانوني وسياسي في القانون الدولي.
لكن التصعيد الأبرز جاء في فبراير 2024، خلال قمة الاتحاد الإفريقي في أديس أبابا، عندما شبّه الرئيس البرازيلي ما يجري في غزة بجرائم المحرقة النازية ضد اليهود. هذا التشبيه أحدث زلزالًا دبلوماسيًا غير مسبوق؛ إذ وصفه رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بأنه “مقزّز وخطير”، بينما أعلن وزير الخارجية يسرائيل كاتس أن الرئيس لولا “شخص غير مرغوب فيه” (persona non grata) في إسرائيل، في سابقة على هذا المستوى بين الدولتين. كما جرى استدعاء السفير البرازيلي إلى متحف “ياد فاشيم” للتذكير بفظائع الهولوكوست، في محاولة لإبراز “الإساءة” التي تضمنتها تصريحات لولا.
التصعيد المتدرج
ورغم الضغوط، لم يتراجع لولا، بل رسّخ خطابه كجزء من رؤية أخلاقية لسياسة خارجية مستقلة. ففي يونيو 2024، جدد التأكيد على أن ما تقوم به إسرائيل في غزة ليس دفاعًا عن النفس بل “انتقام ممنهج” يستهدف المدنيين. ثم رفع منسوب خطابه مجددًا في يونيو 2025، خلال زيارته إلى باريس، حيث وصف الحرب بأنها “إبادة مبرمجة ينفذها جيش مؤهل ضد النساء والأطفال”.
التحول النوعي جاء في 29 يوليو 2025، حين أعلنت الحكومة البرازيلية انسحابها من “التحالف الدولي لإحياء ذكرى الهولوكوست” (IHRA)، الذي انضمت إليه البرازيل في عهد الرئيس اليميني جايير بولسونارو. وبررت ذلك بأن الالتزامات المرتبطة بعضوية التحالف تتعارض مع استقلالية السياسة الخارجية البرازيلية، وتهدد قدرتها على التعبير بحرية عن مواقفها تجاه الصراع الفلسطيني–الإسرائيلي.
هذا القرار أثار ردود فعل غاضبة من المنظمات اليهودية العالمية التي اعتبرته تقويضًا لجهود مكافحة معاداة السامية، فيما وصفته إسرائيل بأنه “عمل عدائي” يعكس انزياحًا جوهريًا في الاستراتيجية البرازيلية.
الذروة: أزمة التمثيل الدبلوماسي
في 26 أغسطس 2025 بلغت الأزمة ذروتها، حين رفضت البرازيل اعتماد السفير الإسرائيلي المرشح غالي داغان. وردّت إسرائيل بخفض مستوى التمثيل الدبلوماسي إلى درجة القائم بالأعمال.
لاحقًا، شن وزير الحرب الإسرائيلي يسرائيل كاتس هجومًا شخصيًا على الرئيس لولا عبر منصة “إكس”، متهمًا إياه بمعاداة السامية، بل ونشر صورة مُعدلة بالذكاء الاصطناعي تُظهر لولا كدمية في يد المرشد الإيراني علي خامنئي. وردت الخارجية البرازيلية ببيان قوي وصفت فيه هذه التصريحات بأنها “إهانات غير مقبولة وأكاذيب متعمدة”، محمّلة إسرائيل المسؤولية عن مجزرة في مجمع ناصر الطبي بخان يونس.
وبذلك تحولت الأزمة إلى قطيعة دبلوماسية متكاملة، تُدار عبر تبادل الاتهامات والإهانات، بما يعكس انهيار الثقة وانسداد الأفق الدبلوماسي بين الطرفين.
تداعيات الأزمة: محليًا وإقليميًا ودوليًا
- فلسطينيًا: دعمت مواقف البرازيل الحراك الفلسطيني دوليًا، خاصة في ملفات الاعتراف بالدولة الفلسطينية والتحقيقات أمام المحكمة الجنائية الدولية، مع توفير زخم إعلامي كبير.
- إسرائيليًا: أدى التصعيد إلى فقدان شريك إقليمي مهم وتراجع النفوذ الإسرائيلي في أمريكا اللاتينية، فضلًا عن تعزيز صورة إسرائيل كدولة صدامية.
- برازيليًا: عززت الأزمة صورة البرازيل كقوة جنوبية مستقلة، تسعى إلى صياغة قواعد جديدة للشرعية الدولية بعيدًا عن الهيمنة الغربية.
- إقليميًا: شجعت مواقف لولا دولًا في أمريكا اللاتينية مثل تشيلي وكولومبيا وبوليفيا والمكسيك على تشديد خطابها تجاه إسرائيل.
خاتمة: الأزمة كفرصة استراتيجية وتحول هيكلي
تجاوزت الأزمة بين البرازيل وإسرائيل كونها خلافًا عابرًا، لتصبح مؤشرًا على تحول هيكلي في العلاقات الدولية. فالبرازيل، عبر تمسكها بدبلوماسية القانون الدولي وحقوق الإنسان، تعزز موقعها كقوة متوسطة في الجنوب العالمي، بينما تجد إسرائيل نفسها أمام تحدٍّ استراتيجي يعيد تسليط الضوء على انتهاكاتها.
بالنسبة للفلسطينيين، تمثل الأزمة فرصة استراتيجية للانتقال من رد الفعل إلى المبادرة، وللاستفادة من منصة البرازيل لتعزيز الاعتراف الدولي بالدولة الفلسطينية. أما على الصعيد الإقليمي والدولي، فإن المواقف البرازيلية أسست لبناء تكتل داعم في أمريكا اللاتينية، وساهمت في إحياء مبادرات دولية مثل تلك التي قادتها فرنسا والسعودية في الأمم المتحدة عام 2025.