قراءة في رواية لعنة الصفر لحنين نصّار

صنارة نيوز - 13/02/2025 - 10:36 am

.
 بقلم: الناقد /محمد رمضان الجبور

في رواية "لعنة الصفر" للروائية حنين نصار، نجد أنفسنا أمام رحلة نفسية معقدة، تتنقل بين خيوط الوعي واللاوعي، وبين حقيقة الذات وما يخفيه الإنسان من آلام وأحلام، تأخذنا حنين نصّار إلى عالم مُدهش، مليء بالظلال النفسية والتجارب الإنسانية التي تختلط فيها المشاعر والأفكار، ليظل السؤال الأساسي: هل نحن حقًا أحرار في صنع مصيرنا، أم أن هناك ما يلاحقنا من "لعنة" لا يمكن الهروب منها؟
الرواية لم تقتصر على البعد النفسي فقط ، فهناك أبعاد أخرى يلمحها المتلقي كالبعد  الاجتماعي والديني، فالرواية  عمل أدبي ينسج عمقًا نفسيًا واجتماعياً ودينيًا بمهارة لافتة،  فأحداث الرواية  تدور حول شخصية رئيسية ( شخصية عمر)  تواجه تحديات نفسية معقدة في سياق بيئة اجتماعية ودينية، مما يجعل العمل يتجاوز البعد النفسي إلى الأبعاد الاجتماعية والدينية.
فالكاتبة تسلط الضوء على التوترات والمفارقات في العلاقات الإنسانية داخل المجتمع، مما يثري النص ويجعله يتفاعل مع الواقع المحيط.
فرواية "لعنة الصفر" ليست مجرد سرد لحدث أو قصة، بل هي رحلة داخل النفس البشرية، حيث تعكس الرواية جوانب من الضعف والقوة، من الهزيمة والنهوض، في سعي مستمر نحو فهم الذات والمعنى الحقيقي للحياة.
ففي الجانب والبعد الاجتماعي تتناول الروائية حنين نصّار قضية معقدة تمس العديد من المجتمعات المعاصرة، وضع المصحات النفسية وما بها من فساد اجتماعي وأخلاقي وذلك من خلال سرد قصصي يزاوج بين الواقع والخيال، فالرواية تفتح نافذة على معاناة المرضى النفسيين داخل هذه المؤسسات المغلقة التي يُفترض أن تكون ملاذًا للعلاج والشفاء، لكن ما يظهر على السطح هو صورة مغايرة تمامًا.
فالرواية تأخذنا إلى عمق معاناتهم، حيث يتم تسليط الضوء على تأثيرات النظام الاجتماعي الذي يتعامل مع المرض النفسي بسطحية واهتمام ضئيل، ونرى أن  الرواية تعكس  الصورة البائسة للمصحات النفسية، التي لم تعد مكانًا للعلاج، بل أصبحت بيئة مليئة بالفساد وسوء المعاملة، فالمرضى الذين يعانون من مشاكل نفسية يجدون أنفسهم محصورين بين جدران هذه الأماكن التي تغذي مرضهم بدلاً من علاجهم، سواء كان ذلك بسبب الإهمال الطبي أو الاستغلال النفسي والاجتماعي من قبل العاملين، ونجد أن المصحات تتحول إلى سجون للمعاناة بدلًا من أن تكون مراكز للشفاء.
ومع كل هذا، تحاول الرواية في بعض جوانبها أن تفتح الأفق نحو الأمل والتغيير فرغم الفساد المنتشر في المصحات النفسية، تظهر بعض الشخصيات في "لعنة الصفر" التي تسعى لتحقيق الخلاص، سواء كان ذلك من خلال اكتشاف الذات أو السعي لخلق بيئة أفضل، وتظل هذه الجهود محفوفة بالعقبات، مما يجعل السؤال المركزي للرواية يتمحور حول قدرة الشخص على التحرر من هذه "اللعنة" التي تُثقل كاهله هل يمكن للإنسان أن يتجاوز محيطه الفاسد وأن ينجو من هيمنة المرض النفسي والمؤسسات التي تدير هذه المعاناة.
فالروائية تسلط الضوء على كيفية تعامل المجتمع مع المرض النفسي وواقع الفساد المستشري في المصحات النفسية فالكاتبة  حنين نصّار، من خلال قلمها الأدبي، تقدم لنا مرآة قاسية لحقيقة مريرة يعيشها العديد من المرضى النفسيين، وتفتح نقاشًا هامًا حول كيفية إصلاح هذا النظام الاجتماعي والإنساني الفاشل.
في الرواية، تتجلى العديد من الأبعاد النفسية والاجتماعية التي تسهم في بناء شخصيات الرواية وأحداثها، إلا أن جانبًا آخر لا يقل أهمية عن هذه الأبعاد هو الجانب الديني والروحي الذي يظهر بوضوح  من خلال التذكير المستمر بالمفاهيم الدينية والروحانية، وما يحمله ذلك من تأثيرات على الشخصيات وتطور الأحداث. 
بين الحين والآخر، تذكر نصّار في روايتها بعض الآيات القرآنية التي تتداخل مع السياق النفسي والاجتماعي الذي تعيشه الشخصيات، هذا التناص مع القرآن لا يأتي بشكل مباشر أو تقليدي، بل يتم إدراجه في سياق الأحداث لتظهر كيف أن القيم الروحية قادرة على التأثير في النفس البشرية فعلى سبيل المثال، نجد أن شخصية مثل الممرضة إيلاف، التي تقع في صراع داخلي بسبب عواطفها تجاه المريض عمر، تجد في بعض الآيات القرآنية ما يعيدها إلى صوابها، أو يعزز فيها الأمل في أن كل شيء تحت إرادة الله، فالتناص مع الآيات يُظهر كيف أن الدين يمكن أن يكون ملاذًا روحيًا يساعد الشخصيات على التعامل مع الأزمات النفسية.
ولنا أن نقول أن الروائية نجحت  في توظيف الجانب الروحي بشكل يعكس تأثيره العميق في التعامل مع الأزمات النفسية والاجتماعية وذلك  من خلال التذكير بالآيات القرآنية والتناص الديني. 

الشخصيات : 
الشخصيات عنصر رئيسي في بناء الرواية، وقد ظهرت مجموعة من الشخصيات الثانوية التي ساعدت في بناء أحداث الرواية مثل، الممرضة إيلاف ، عامر رشيد ، فؤاد، الطبيب سامر السفاريني ، المعلم نزيه خير وغيرهم ولكن سأقف على أكثر الشخصيات الثانوية تأثيراً في الرواية ، فالشخصية الرئيسية والمحورية في الرواية هي شخصية عمر، وهناك مجموعة من الشخصيات الثانوية التي تساعد في بناء وتنامي الأحداث.
إيلاف هي ممرضة في المصحة النفسية، وتتميز بقدرتها على التعاطف مع المرضى ومعاناتهم، لكن هذه الصفة، التي تبدو إيجابية في البداية، تتحول إلى عبء ثقيل على كاهلها، تتعاطف إيلاف بشكل خاص مع المريض عمر، الذي يعاني من اضطرابات نفسية عميقة لكن شخصيته المثيرة للشفقة وجروحه النفسية تجعل إيلاف تضع ثقتها الكاملة في روايته حول ما يمر به، ولكن سرعان ما تقع إيلاف في فخ العاطفة، حيث تتخذ قرارات مهنية غير مدروسة بناءً على مشاعرها تجاه عمر وتستجيب لتصريحاته دون أن تتخذ الحذر اللازم، مما يضعها في مواجهة مشاكل مع إدارة المصحة المشاكل لم تكن تتعلق فقط بعملها بل تتجاوزها لتسائلها عن حدود التعاطف المهني، وكيف يمكن أن يؤثر الانحياز العاطفي على حكمها وتوجهاتها، فشخصية إيلاف تجسّد الصراع بين الواجب المهني والعاطفة الإنسانية، مما يسلط الضوء على تحديات العمل في بيئة تُمتحن فيها الأخلاقيات المهنية باستمرار.
أما الأستاذ نزيه خير، فهو شخصية أخرى تعكس تأثير الماضي على الحاضر وكيف يمكن أن تؤثر المعلومات المبدئية على قرارات الإنسان في حياته اليومية. خير كان مدرسًا سابقًا لطالب يدعى عمر، ويشعر بالفخر أنه كان له دور في تشكيل شخصية هذا الطالب الذي كان يعتبره نموذجًا مثاليًا من الطلاب؛ لذا، عندما يعيد التقاءه بعمر في المصحة النفسية، يظل يحمل صورة مشوهة عن هذا الطالب في ذهنه استنادًا إلى معلوماته السابقة عن عمر، يتمسك الأستاذ خير بالصورة التي شكلها عنه في الماضي، ويجد صعوبة في تقبل التغيرات التي قد تكون قد طرأت على شخصية عمر. فيظل يُعامل عمر بطريقة متحيزة استنادًا إلى ما يحفظه عنه من أيام المدرسة، متجاهلًا الظروف النفسية الحالية التي يمر بها عمر. شخصية خير تُظهِر لنا فخ المعلومات المبدئية والأحكام المسبقة التي قد تعمي الشخص عن رؤية الحقيقة المتجددة للآخرين، وتُشير إلى مشكلة التصنيف الاجتماعي والشخصي الذي يعتمد على التاريخ دون إعادة النظر في التغييرات التي تطرأ على الأفراد.
عامر رشيد هو أخ عمر، ويشكل شخصيته واحدة من أعمق الشخصيات في الرواية، حيث يمثل هذا البعد الاجتماعي في التعامل مع أفراد العائلة وأعباء العلاقات الأسرية. عامر يشعر بالخوف العميق من فكرة خروج شقيقه عمر من المصحة النفسية، ليس فقط خوفًا على حالته الصحية، ولكن أيضًا خوفًا على وضعه الاجتماعي والعائلي. يتصور عامر أن خروجه من المصحة سيشكل تهديدًا لحياة عائلته الشخصية، خاصة مع وجود زوجته وأبنته، ويبدأ في اتخاذ مواقف سلبية تجاه فكرة شفاء عمر واندماجه مع المجتمع الخارجي. خوفه هذا يعكس الكثير من الانغلاق الاجتماعي والتحفظ على الأشخاص الذين يمرون بتجارب نفسية، مما يثير تساؤلات عن الدور الذي يلعبه المجتمع في تقبل المرضى النفسيين ورؤيتهم كأفراد غير قابلين للتغيير أو العودة إلى الحياة الطبيعية. فشخصية عامر تظهر النزعة الاجتماعية التي تعتبر المصحة مكانًا للعزل النهائي، حيث يظن البعض أن وجود المرضى النفسيين في أماكن معزولة يحفظ توازن الحياة الاجتماعية الأسرية.
في النهاية نستطيع أن نقول أن شخصيات رواية "لعنة الصفر" تتنوع في سلوكياتها وتصرفاتها التي تعكس البُعد النفسي والاجتماعي للأحداث، مما يساهم في تقديم صورة شاملة ومعقدة عن تأثيرات المرض النفسي على الأفراد والمجتمعات. من خلال شخصية إيلاف، نرى التعاطف العاطفي الذي يهدد المهنة، ومن خلال شخصية الأستاذ خير، نلمس التقدير السطحي الذي يعتمد على المعلومات المبدئية، ومن خلال شخصية عامر رشيد، نرى الارتباك الاجتماعي والخوف من التغيير. في النهاية، تتساءل الرواية عن مدى قدرة هذه الشخصيات على التعامل مع تحديات الحياة النفسية والاجتماعية، وتبرز مشكلات النظام الاجتماعي الذي يواجه المرضى النفسيين في المصحات وما يترتب عليه من أزمات داخلية وخارجية.