هل انتهت حقبة "سايكس-بيكو" حقا؟!

صنارة نيوز - 2015-03-14 09:01:50

د.باسم الطويسي

في أجواء معركة تكريت وما بعدها، ظهرت إشارات سياسية صريحة عن احتمالات قوية بنهاية تنظيم "داعش" في العراق قبل نهاية هذا العام. وتصاحب هذه الإشارات محاولة لخلق اصطفاف جديد تحت لواء مخاوف أو افتراضات طائفية في الحرب الدائرة هناك؛ مرة باتجاه مشاركة إيرانية في هذه المعركة، ومرة أخرى بإعادة اكتشاف هوية ما يسمى "الحشد الشعبي". بمعنى أن السؤال المطروح اليوم، وبقوة، هو: ماذا بعد "داعش"؟ وما هي صيغة الموجة الجديدة للصراعات  التي ستفتك بالمنطقة، وعلى خلفيات دينية أيضا؟
خلال النصف الثاني من التحولات والثورات العربية (الربيع العربي)، وتحديدا في العام الأخير، ظهرت بقوة فكرة "نهاية حقبة سايكس-بيكو"؛ في إشارة إلى المعاهدة السرية التي جاءت ضمن ترتيبات الحرب العالمية الأولى، وتقاسمت بموجبها دول الحلفاء مناطق النفوذ في الشرق العربي. وقد شكلت هذه المعاهدة خلفية مرجعية ورمزية تاريخية للخرائط السياسية على مدى قرن من الزمن. ولطالما بقيت "سايكس-بيكو" التي ظلت سرية إلى أن كشفتها إحدى الصحف الروسية العام 1917، واحدة من أكثر الخبرات العربية مرارة في التعامل مع الغرب، وعلى أساسها تشكل الوعي المَرَضي بأطروحة المؤامرة السياسية التي دشنت وعي نخب واسعة من المثقفين والسياسيين العرب.
ازدادت فكرة "نهاية سايكس-بيكو" حضورا، وفرضت نفسها بقوة، مع استيلاء تنظيم "داعش" على مدينة الموصل، وبدأت فصائله تتحرك عبر الحدود الدولية بين العراق وسورية. والغريب في الأمر أن دعاية التنظيم هي التي أعادت التركيز على هذه الفكرة؛ إذ شن حملة دعائية واسعة، باللغتين العربية والإنجليزية، وعبر وسائل الإعلام الرقمية والاجتماعية، تحت عنوان "سايكس-بيكو انتهت". وكما حدث مع مقولات دعائية أخرى، لم يكذب ذلك العديد من المحللين والمعلقين العرب، وأعادوا إنتاج الفكرة من جديد.
للأسف، الأحداث تثبت أن حقبة "سايكس-بيكو" لم تنته؛ كل ما حدث بالأمس القريب، وما يحدث اليوم، لا يتجاوز إعادة تكريس الحدود، وبالمبادئ والآليات والوسائل التي أدارت تلك الحقبة. فالعرب لم يخرجوا بعد من حقبة الربع الأول من القرن العشرين.
يذكر المؤرخ الألماني فريتز فيشر، في كتابه "الطموح إلى القوة العظمى"، والصادر في العام 1961، أن ألمانيا وتركيا توصلتا إلى وصفة للتلاعب بالتناقضات الدينية والإثنية والسياسية، لخلق ثورات واضطرابات تحت رايات "الجهاد" في المناطق الخاضعة للقوى المعادية، وفي مقدمتها بريطانيا، لتحريض المسلمين في مصر والهند على التمرد على الاحتلال البريطاني، وإضعاف موقف الحلفاء. في المقابل، قام البريطانيون، الأكثر حنكة، باختطاف هذا السلاح من خلال إشعال الاضطرابات في البلاد الخاضعة لسيطرة الأتراك وغيرهم، تحت ظلال فكرة الجهاد ذاتها. وتوجت هذه الحقبة بمعاهدة "سايكس-بيكو" (منذ تلك اللحظة، وإلى اليوم، صارت الدعوة للجهاد الإسلامي لعبة سياسية، وسلاحا يوظف لإثارة القلاقل والاضطرابات الداخلية، بعيدا عن حقيقة مفهوم الجهاد فى الإسلام ومقاصده).
المشكلة أن ما حدث في "الربيع العربي" الأول؛ أي في ثورة العرب على الأتراك، وخداع الحلفاء لهم، كان مؤامرة بالمعنى السياسي والتاريخي، ولا مجال للجدال بشأنه. لكن ما حدث بعد ذلك، وتحديدا بعد نحو مائة عام -ونحن نعيش إعادة إنتاج "سايكس-بيكو" وترسيخها وليس الخروج منها، وبنفس الأدوات والوسائل- لا يمكن أن يوصف بالمؤامرة، بل بحجم ما تشهده هذه المنطقة من فقر سياسي واستراتيجي، وخواء معرفي.